موضوع: ]أولو العزم من الرسل السبت أغسطس 24, 2013 9:20 pm
أولو العزم من الرسل يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه و سلم : (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل))(الأحقاب:35). وواضح من الآية أن الصفة البارزة في أولئك الرسل أولى العزم هي الصبر، ذلك أنها هي الصفة التي يطلب الله عز وجل من رسوله الكريم صلى الله عليه و سلم أن يتأسى بهم فيها من بين صفاتهم العديدة . وكل الرسل – كما رأينا في الفقرة السابقة – ذوو صبر وثبات وتحمل. فلابد أن يكون اختصاص ((أولى العزم)) بهذا الوصف الذي وصفهم به الله في كتابه الكريم ناشئاً من زيادة في صفة الصبر عن الرسل العاديين، وقدرة فائقة على تحمل الشدائد، وثبات في مواجهة المواقف الصعبة التي مرت بهم في أثناء قيامهم بالدعوة إلى التوحيد. وإذا كان الرسل جميعاً هم هداة البشرية وقادتها، وهم موضع القدوة والأسوة، فإن في حياة أولى العزم من الرسل عبراً خاصة، لطول جهادهم، وكثرة المواقف الصعبة التي تعرضوا لها، وثباتهم في وجه العواصف المزلزلة التي تنخلع لها القلوب، واطمئنانهم إلى قدر الله ووعده بالنجاة والنصر .. ثم فيما حل بالمكذبين من أقوامهم من هلاك وتدمير . إن الدعاة بصفة خاصة – كما قلنا في الفقرة السابقة - هم أولى الناس بأخذ العبرة من سير الرسل جميعاً. ولكنهم أجدر بأن يأخذوا العبرة من سير أولى العزم من الرسل، وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه و سلم ، لأنه ما من موقف يتعرضون له في دعوتهم إلا له مثيل أو شبيه في سيرهم .. ثم ينتصر الحق بعد الجهاد الطويل والجهد الشاق، وتذهب قوى الباطل بدداً ويبقى الحق راسخاً في الأرض يظلل الناس بظلاله الوارفة، وينعم الناس في ربوعه بالأمن، بعد أن يكون المجاهدون قد ضحوا في سبيله بأمنهم وراحتهم، وأموالهم وأنفسهم، يذهب منهم من ذهب شهيداً في سبيل الله ويبقى منهم من يبقى شهيداً للحق بصبره وثباته وتجرده لله : ((من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً))(الأحزاب:23). وإليك نبذة سريعة عن أربعة من أولئك الرسل الكرام من أولى العزم :
1- نوح عليه السلام : من أبرز أمثلة الصبر على مشاق الدعوة والصبر على صدود المدعوين نوح عليه السلام. فلقد لبث يدعو ما يقر بمن ألف سنة دون أن يستجيب له من قومه إلا أفراد قليلون! وحتى ابنه لم يستجب إليه وغرق مع المغرقين! وكذلك امرأته! وإن من أشق الأمور على نفس الداعية أن يدعو دون أن يستجيب له الناس الذين يدعوهم إلى الخير وإلى النجاة، ولكن اشق من ذلك أن يأتى الصدود من قبل المقربين من الأهل، بما في ذلك الزوجة والولد، أقرب الناس إلى الإنسان، وأحراهم أن يكونوا أول المستجيبين. ويقص القرآن الكريم علينا قصة نوح في مواطن كثيرة بالإيجاز حيناً وبالإطناب حيناً آخر، ولكنها كلها تحمل العبرة لمن يتدبر القصة بقلب واع ولب متفتح، ففي قصص الأنبياء كما يقول القرآن : ((عبرة لأولى الألباب))(يوسف:111). ((ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون))(العنكبوت:14). واستمع إلى قصته مع قومه (في سورة نوح ) : ((إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم(1) قال ياقوم إني لكم نذير مبين(2) أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون(3) يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون(4) قال رب إني دعوت قومى ليلاً ونهاراً(5) فلم يزدهم دعائى إلا فراراً(6) وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً(7) ثم إني دعوتهم جهاراً(ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً)) (نوح:1-9). فماذا كانت نتيجة الدعوة المثابرة التي لا تفتر بالنهار ولا بالليل، وتأخذ حيناً صورة الجهر وحيناً صورة السر؟! ((قال نوح رب إنهم عصونى واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا(21) ومكروا مكرا كباراً(22) وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً(23) وقد أضلوا كثيراً))(نوح:21-24). لقد كان قبل بعثته نجاراً. وكان معروفاً في قومه بالأمانة والاستقامة والاجتهاد في الصنعة، فلما اختاره الله للرسالة اتبعه بعض المستضعفين من قومه ولكن الملأ – كما هي العادة- استكبروا وعصوا، وراحوا يجادلون ويكذبون. كانت دعواهم في التكذيب أنه بشر مثلهم! ولو أراد الله أن يرسل إليهم رسولاً لأنزل ملكاً من السماء، أما أن يرسل بشراً مثلهم فأمر – في دعواهم – غير جائز! فهو إذن كاذب في دعواه أنه رسول من عند الله، وما يريد بدعواه هذه إلا أن يتميز عليهم! فجزاؤه على ذلك أن يتهم بالجنون! (( ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون(23) فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين(24) إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين))(المؤمنون: 23-25). ثم كان من دعواهم في التكذيب كذلك أن الذين اتبعوه ليسوا من عليه القوم بل من أراذلهم (كما يسمونهم): ((ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين(25) أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم(26) فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين))(هود : 25-27). ثم طالبوه – زيادة في التعنت – أن يطرد أولئك الاراذل من صحبته إذا أرادهم أن يتسمعوا إليه، وأن يعلن أنهم مطرودون من رحمة الله أيضاً ! ((وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكنى أراكم قوماً تجهلون(29) ويا قوم من ينصرنى من الله إن طردتهم أفلا تذكرون(3.) ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم اله خيراً أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين))(هود:29-31). وواضح من الآيات أنهم كانوا يعنتونه كذلك بأن يطالبوه بأن تتدفق عليهم الأموال من خزائن الله، وأن ينبئهم الغيب، وأن ينزل الملائكة من السماء إذا أرد منهم أن يؤمنوا به! ولقد صبر نوح عليه السلام على هذا العنت كله، وعلى الصد الطويل من قومه بعد الدعوة المستمرة لهم عاماً بعد عام، سراً وجهراً، ونهاراً وليلاً . ((وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون))(هود:36). وأوحى الله إليه أن يصنع الفلك الذي سيحمل فيه المؤمنون حين يجئ الطوفان الذي يغرق المكذبين.. وكانت فرصة لقومه لكى يسخروا منه ويتهموه بالجنون، إذ أنه ما الذي يدفع إنساناً عاقلاً أن يصنع فلكلاً في أرض يابسة تحيطها الجبال ؟!
((ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون(38) فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم))(هود:38،39). وفي الموعد المقرر في قدر الله جاء الطوفان لقد كان نوح قد دعا ربه بعد الجهاد الطويل مع قومه والصبر الطويل على أذاهم أن يدمر عليهم: ((وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً))(نوح: 26) ثم إنهم كانوا قد توعدوه بالقتل: ((قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين))(الشعراء :116). فدعا ربه أن ينجيه من أذاهم : ((قال رب إن قومى كذبون(117) فافتح بينى وبينهم فتحا ونجنى ومن معى من المؤمنين))(الشعراء : 117،118). لقد وصلت الأمور إلى قمتها .. ولم يبق إلا أن تمتد يد الله بالنجاة والرحمة للمؤمنين، وبالبطش والدمار للمكذبين . ((حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه قليل))(هود:4.). ((فدعا ربه إني مغلوب فانتصر(1.) ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر(11) وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر(12) وحملناه على ذات ألواح ودسر(13) تجرى بأعيننا جزاء لمن كان كفر))(القمر:1.-14).
لقد كانت هذه هي معجزة نوح الطوفان يغرق الأرض اليابسة ذات الجبال العاليةـ، ويغرق المكذبين جميعاً فلا يبقى منهم فرد واحد. بينما تكتب النجاة للمؤمنين في داخل الفلك المشحون، الذي كان الملأ يسخرون من نوح وهو يصنعه فوق اليابسة! ولكن الابتلاء مع نوح لم يكن قد انتهي حتى لحظة الطوفان! كانت هناك بقية من الابتلاء يتعرض لها ذلك الرسول من أولى العزم.. في ولده أقرب الناس إليه! ((وهي تجرى بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بنى اركب معنا ولا تكن من الكافرين(42) قال سآوى إلى جبل يعصمنى من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين))(هود: 42-43). وينتهي الطوفان .. وتتم المعجزة ..ويغرق المكذبون .. وينجو المؤمنون وما تزال في نفس نوح حسرة على ولده الذي ظن – من وعد الله له بنجاة أهله – أنه من الناجين! حسرة مزدوجة على فقده في الحياة الدنيا، وفقده يوم القيامة حيث يكون في النار مع الكافرين. ((وقيل يا أرض ابلعى ماءك ويا سماء اقلعى وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودى وقيل بعدا للقوم الظالمين(44) ونادى نوح ربه فقال رب إني ابنى من أهلى وإن وعدك حق وأنت أحكم الحاكمين(45) قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين))(هود:44-46). ((إنه ليس من أهلك)) وإن كان ابنك من صلبك. فقد فرقت العقيدة بينكما، فلم يعد من أهلك، لأن أهلك هم المؤمنون.. وهذا عمل غير صالح لأنه أبى أن يؤمن وأصر على الكفر .. فكان جزاؤه الحق هو جزاء الكافرين.. وعندئذ يصل نوح عليه السلام إلى الذروة: ذروة التسليم لله، والاطمئنان إلى قدر الله، والرضى بما كتب الله، وطلب الرحمة والمغفرة من الله : ((قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم وإلا تغفر لى وترحمنى أكن من الخاسرين(47) قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك ))(هود : 47،48).((سلام على نوح في العالمين))(الصافات:79)