فضل الرسل على تقدم البشرية.
حين نتحدث عن تقدم البشرية يتبادر إلى ذهن البعض منا – بتأثير الجاهلية المعاصرة – أننا سنتحدث عن التقدم المادي من سيارات وطائرات وما إليها من الوسائل والأدوات... !
ولا ينبغى أن يظن هذا الظن من ينظر إلى الأمور نظرة عميقة ونظرة جادة !
فالتقدم المادي جانب من التقدم البشرى، نعم، مهم وضرورى، ولكنه ليس هو الذي يضع الإنسان في مكانه من سلم الرقى ((الإنسانى)). إنما الذي يضعه في ذلك المكان هو مقدار ما يشتمل عليه من القيم والمبادئ ((الإنسانية)) تصوراً وسلوكاً، وفكراً ومشاعر. ولنعقد موازنة سريعة تحسن لنا الحكم في هذه القضية: هل مجتمع الصحابة رضوان الله عليهم أفضل في المقياس الإنسانى أم المجتمع الغربى المعاصر بما يعج به من مفاسد ومظالم واضطرابات وانحرافات؟
أيهما أقرب إلىصورة الإنسان ((في أحسن تقويم)) كما خلقه الله وكما أراده أن يكون : ((لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم(4) ثم رددناه أسفل سافلين(5) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات))(التين:4-6).
أيهما أحب إلى الله وأحب إليك: ذلك الصحابى الجليل في تقواه وورعه، وصدقه، وأمانته، ونظافة سلوكه ونظافة مشاعره، وعدله واستقامته، وتواضعه لله عز وجل مع ترفعه عن السفاسف والدنايا، وشجاعته في الحق، وحرصه على الموت في سبيل الله والعقيدة التي يعتنقها، وفي سبيل تحرير الناس من عبادة العباد وعبادة الشهوات إلى عبادة الله الواحد لا شريك .. أم ذلك الغربى المنتفش بما لديه من علم ظاهرى، المتجبر في الأرض بما لديه من إمكانات مادية، الهابط في حمأة الشهوات، المتردى في تعامله مع نفسه وتعامله مع الآخرين إلى عالم الحيوان: ((ثم رددناه أسفل سافلين))(التين:5).
حقيقة أن المسلمين – بعد أن استقر لهم أمر الدين، ومكنوا في الأرض – قاموا يسعون إلى تحصيل العلم الأرضى والتقدم المادي، وبلغوا فيه شأوا لم يبلغه غيرهم في وقتهم، شعوراً منهم بأن هذا واجب عليهم للقيام بعمارة الأرض بالحق كما أمرهم الله.. ولكن ظل المقياس الذي يقيسون به حياتهم هو المقياس ((الإنسانى)) لا المقياس الذي وضعه الله النعيم الحكيم لتقويم ((الإنسان)) ، لكى يكون ((في أحسن تقويم)) منفرداً بين خلق الله بالخلافة في الأرض وحمل الأمانة الكبرى التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال: ((ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً))(الإسراء:7.).
فحين نتحدث عن تقدم البشرية فإنما نتحدث عن تلك القيم والمبادئ التي تجعل من الإنسان إنساناً بصرف النظر عن حظه من التقدم المادي: كيف يتعامل مع ربه؟ كيف يتعامل مع نفسه؟ كيف يتعامل مع الآخرين؟
وفي هذا المجال – وهو مجال الحياة الأصيل في الحقيقة - نجد أن الفضل الأكبر هو للأنبياء والرسل قبل كل الخلق، لأنهم هم – بما أوحى إليهم ربهم، وبما جاهدوا في سبيل الله – هم الذين قرروا تلك المبادئ والقيم في واقع الأرض، وجعلوها حقيقة واقعة في عهدهم، وتراثاً يتناقل من بعدهم.
ونستطيع أن نقول في اطمئنان إن كل ما عرفته البشرية من خير حقيقى مرجعه إلى الوحى الربانى الذي حمله الرسل ودعوا إليه، ووثقوا وجوده الواقعى في الأرض بجهادهم، وإن كل ما أصاب البشرية من شر كان سببه الانحراف عن تعاليم الرسل وعدم الاقتداء بهم. وحين يختلط الحق بالباطل كما هو اليوم، ويختلط الخير بالشر كما يحدث في كل جاهلية، يكون ما بقى من الخير في الأرض – أيا كان مقداره – راجعاً إلى الأنبياء والرسل، وما فيها من الشر راجعاً إلى الناس.
إن كل ما تتشدق به البشرية اليوم من الحق والعدل والحرية والإخاء والمساواة مستمد – في أصله – من تعاليم الرسل، مع فارق واحد : أنه كان على يد الرسل حقيقة واقعة، ربوا عليها أتباعهم، وجعلوها سلوكاً واقعياً في حياتهم، وهي على يد الأفاقين اليوم كلام جميل يخدع به الناس دون أن يكون له رصيد من الواقع!
وإن الفترات المشرقة في تاريخ البشرية كله هي الفترات التي سادت فيها تعاليم الرسل وكانت واقعاً يعاش بالفعل ولا يكتفي بأن يردد بالقول.
وتلك الفترات هي فترات الحضارة الحقيقية والمدنية الفاضلة، وما عداها فهو حضارات جاهلية زائفة، يختلط فيها الخير والشر، ثم يظل الشر يتزايد حتى يصبح هو الغالب على حياة الناس، ويظل يأكل ما بقى من خير متضائل حتى ينهار البناء كله على من فيه كما يوشك أن يحدث اليوم .
ولن ينقذ البشرية من الدمار اليوم – ولا في أى يوم – إلا أن تعود إلى تعاليم الرسل تطبقها في واقع حياتها، وإلا أن تعود مسلمة إلى ربها : ((إن الدين عند الله الإسلام))(آل عمران: 19).
((ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين))(آل عمران:85).