طريقة القرآن في هداية النفس البشرية
وردها عن شتى الضلالات
إذا تدبرنا القرآن الكريم – وبصفة خاصة ما يتناول موضوع العقيدة – نجد أن القرآن يستخدم وسائل شتى وأساليب متنوعة لتوضيح العقيدة السليمة وتصحيح الانحرافات التي يقع فيها الناس حين تستولى عليهم الجاهلية وتبعدهم عن الهخدى الرباني، ثم لتثبيت هذه العقيدة وتعميق أثرها في النفس.
ومن هذه الوسائل :
1- إثارة الوجدان لتدبر آيات الله في الكون، وإزالة التبلد الذي يقع في حس الإنسان من المشاهد المكرورة. وذلك يشمل الحديث عن الكون بضخامته الهائلة ودقته المعجزة، وظاهرة الموت والحياة، وإجراء الرزق، وإجراء الأحداث، وقدرة الله التي لا تحد، وعلم الله الشامل للغيب، كل ذلك بطريقة فذة تجعل الإنسان يستقبل هذه الأمور كلها كأنه يراها ويلاحظها لأول مرة، فينفعل بها وجدانه، ويستيقظ لحقيقة الألوهية.
2- إثارة العقل ليتفكر في خلق الله، ليدرك أن لهذا الكون خالقاً، وأنه لا يمكن أن يكون له شريك في الخلق ولا في الرزق ولا في تدبير الأمر. وهذا يشمل كل الإشارات السابقة ولكن بطريق آخر غير إثارة الوجدان والانفعال. هو طريق التفكير والتدبر المنطقى. وإن كان يلاحظ أن الطريقتين كثيراً ما تقترنان معاً في آيات كثيرة من آيات القرآن، فيخاطب الوجدان ويخاطب العقل في آن واحد.
3- مواجهة الإنسان بحقيقة ما يدور في داخل نفسه وقت الشدة من اللجوء إلى الله ونسيان الشركاء، ومن الغفلة والنسيان والبغى في الأرض بغير الحق بمجرد زوال الأزمة ونجاته من الخطر. وهي حقيقة كثيراً ما ينساها الإنسان فيذكره القرآن بها ليصحح سلوكه تجاه الله، ويستقيم على العقيدة السليمة .
4- مناقشة الانحرافات كلها التي يقع فيها الجاهليون تارة بالدليل العقلى وتارة بالديل الوجدانى، ودحضها وبيان تفاهتها وعدم قيامها على أي أساس صحيح. ونلاحظ هنا كذلك أنه كثيراً ما يقترن الدليل العقلى بالدليل الوجدانى في مناقشة الانحرافات.
5- التذكير الدائم بقدرة الله التي لا تحد، وعظمته وجلاله حتى يخشع القلب ويستسلم لله.
6- التذكير الدائم بأن الله مع الإنسان يراه ويراقبه ثم يحاسبه يوم القيامة على ما عمل من خير أو شر، وإشعار الإنسان بعلم الله الشامل الذي لا يغيب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا يخفي عليه من عمل الإنسان شيء حتى السر وما هو أخفي من السر.
7- التذكير الدائم بالله سبحانه وتعالى في حالتي السراء والضراء، ففي السراء ينبغى على الإنسان أن يذكر الوهاب المنعم فيشكره. وفي الضراء فيصبر الإنسان لقضاء الله ويتوجه إليه ليكشف عنه الضرر.
8- إيراد القصص التي تثبت الإيمان، بذكر الأنبياء وصبرهم على الأذى ونصر الله لهم في النهاية، والكفار وعنادهم وتدمير الله عليهم في النهاية.
9- رسم الصور المحببة للمؤمنين وصفاتهم وما ينالهم من جزاء، والصور الكريهة المنفرة للكافرين وما ينالهم من جزاء و في الفصول القادمة نتحدث عن هذه الوسائل بشيء من الشرح والبيان.
القرآن والوجدان
قلنا إن الإنسان يتبلد حسه على المشهد المكرر فينسى دلالته الحقيقة . ينسى إعجاز القدرة الربانية لأنه ألف مشهد الليل والنهار، ومشهد الشمس والقمر، والسحاب والمطر، والنبات المخضر. و لم تعد هذه المشاهد تهز وجدانه أو تلفت حسه إلى وجود الخالق سبحانه وتعالى، وإلى أنه خالق عظيم مدبر حكيم متصف بالكمال متفرد بالخلق والإبداع.
و القرآن – بطريقته الجميلة المعجزة – يزيل تلك الغشاوة التي ترين على القلب وتجعل الحس يتبلد. ويعرض آيات الله في الكون في صورة حية ينفعل بها الوجدان كأنها جديدة يشهدها الإنسان لأول مرة! وحين ينفعل بها الوجدان ويتأثر، ويتحرك الخيال لتتبع المشهد المعروض، وتتحرك المشاعر بشتى الانفعالات، عندئذ يوجهه إلى أن وراء هذه المشاهد كلها قدرة الله المعجزة، وأن صانعها وبارئها هو الله فينبغى إذن عبادة ذلك الإله القادر، والتوجه إليه وحده بالعبادة دون سواه بهذه الطريقة الحية الجميلة يتحدث القرآن عن :
مشاهد الكون التي تصور ضخامة الكون ودقته المعجزة في ذات الوقت، ظاهرة الموت والحياة مع عرض تفصيلة أحياناً لمراحل الحياة النباتية والإنسانية، ظاهرة جريان الرزق على الناس والدواب كذلك، ظاهرة جريان الأحداث، سواء الأحداث الكونية أم الأحداث الواقعة في محيط الإنسان القريب علم الله الشامل للغيب، و في كل مرة يعقب بأن الله هو الصانع لهذا كله، فهو الجدير وحده بالعبادة وبالتوجه وبالدعاء وبالخشية وبالرجاء، و في كل مرة يعقب بأن الله هو الصانع لهذا كله، فهو الجدير وحده بالعبادة وبالتوجه وبالدعاء وبالخشية وبالرجاء، والآن فلنعرض أمثلة كل واحد من الموضوعات السابقة، وإن كان كثير منها يأتى مقترناً بعضه ببعض في آيات القرآن .
1- آيات في الكون :
((هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون(1.) ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون(11) وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (12) وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون(13) وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (14) وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون (15) وعلامات وبالنجم هم يهتدون (16) أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون(17) وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم)) (النحل : 1.-18) .
ففي هذه الآيات عرض لبعض آيات الله في الكون بطريقة تزيل عن الحس تبلده إزاء المشهد المكرور، بأن تلفت هذا الإنسان صاحب الحس المتبلد إلى جوانب إما أنه نسيها، وإما أنه لم يلتفت إليها أصلاً. فحين يدركها أو يتذكرها تصبح المشاهد جديدة في حسه، وينظر إليها برؤية جديدة غير التي كان يراها بها من قبل، فينفعل بها وجدانه وتتحرك عواطفه.
فالإنسان ذو الحس المتبلد قد يرى الماء النازل من السماء فلا يتذكر أن هذا المطر هو الذي يتحول إلى عيون وينابيع وآبار وأنهار يشرب منها. أو هو من الجانب الآخر قد يشرب الماء الذي يجده أمامه ميسراً، وينسى أن هذا الماء لم يوجد في الأرض من تلقاء نفسه، بل أنزل الله له في صورة مطر، لا ينزل إلا بقدرة الله، وبحسب القوانين والسنن التي أودعها الله في الكون، فأجرى بها السحاب وأنزل منه الماء. فالنص القرآني يوقظه إلى هاتين الحقيقتين في آن واحد : ((هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب))، كما يلفته أيضاً إلى الشجر النابت من هذا الماء، فلا يعود المطر النازل من السماء ظاهرة مكررة مألوفة منقطعة في حسه عن الله الذي أنزله من السماء، إنما تصبح موصولة بقدرة الله، فتحيا في النفس وتؤثر فيها، بربطها بالله المنعم الوهاب .
ويستمر السياق يعرض أنواعاً من النبات الذي أشارت إليه الآية السابقة، فيذكر الزرع بعمومه، والزيتون والنخيل والأعناب، ((ومن كل الثمرات))، و هذه الطريقة في ذكر بعض الأنواع بالتفصيل والإشارة العامة إلى بقيتها تجعل الخيال يتحرك لتقصى ما لم يذكر بتفصيله بعد أن تتبع المذكور منه بالفعل! و هكذا يشترك الخيال مع الوجدان في تصور المشهد، ويعطى له حيوية جديدة فلا يعود هو المشهد المكرر المألوف الذي تبلد عليه الحس!، ثم يشير السياق إلى الليل والنهار والشمس و القمر والنجوم و كلها مشاهد مألوفة مما يتبلد عليه الحس بالتكرار، ولكن السياق يذكر أمراً جديداً يغير وضعها في النفس، ويجعلها كأنها تعرض لأول مرة، ذلك هو قوله تعالى: ((وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره)).
فالليل والنهار والشمس والقمر والنجوم لم تعد تلك الظواهر الكونية المعتادة التي ألفها الحس ففقدت دلالتها في النفس،، إنما هي كائنات مسخرة بأمر الله. ولا شك أن هذا المعنى قد غير صورتها تماماً عن الصورة المعهودة التي تبدو فيها هذه الظواهر وهذه الأجرام السماوية كأنها قائمة بذاتها، مستقلة عن أي شيء بحركتها! كلا! إنها تقوم بعمل معين. تقوم بتكليف رباني كلفها الله إياه، وإذن فحركتها الدائبة ليست حركة آلية كما يتصورها الحس المتبلد، إنما هي حركة حية ذات غاية وهدف، وكل جزء من هذه الحركة في ليل أو نهار هو قيام بجزء من التكليف الذي يبلغ غايته يوم يغير الله نظام هذا الكون كله في اليوم الموعود. و ذلك فضلاً عن التذكير بنعمة الله في قوله تعالى : ((وسخر لكم الليل والنهار)) والملحوظ أن جو السورة كلها هو جو تذكير الإنسان بنعمة الله عليه، لكى يتحرك وجدانه لشكر أنعم الله، بالتوجه إليه وحده دون سواه، ثم يخطو السياق خطوة أخرى بلفت الحس إلى اختلاف الألوان فيما خلقه الله على ظهر الأرض من كائنات : ((وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه)) و نلحظ هنا كذلك نوعاً آخر من إثارة الخيال لتتبع المشهد؛ فالآية تقول : ((وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه)) ((ما)) بدون تخصيص شيء بعينه، نباتاً كان أو حيواناً أو غيره.. فهنا ينطلق الخيال يتتبع كل ما ذرأ الله في الأرض من الأشياء المختلفة الألوان، فتصبح هذه الأشياء حية في الوجدان، وتتخذ صورة أخرى غير ما كانت عليه في عهد التبلد والنسيان، ثم يقول الله سبحانه وتعالى: ((وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون)).
هل يمكن أن يمر الإنسان بالبحر بعد قراءة هذه الآية دون أن يتحرك وجدانه ؟
إن البحر هنا كله حركة وحياة، مرتبط بحس الإنسان بصلات قوية، فمنه يستخرج اللحم الطرى ليأكل، والحلية ليتزين، وفيه تمخر الفلك لتنقل البضائع والأرزاق.. إنه ليس ماء وأمواجاً فحسب، إنه عالم كامل ملئ بالحركة والنشاط، وكله من فضل الله. أفلا نشكر الله على فضله؟
ثم يذكر السياق من المشاهد الكونية الجبال والأنهار والطرق والعاملات والنجوم بذات الأسلوب الذي يلفت إليها الحس ويحرك الخيال، ويذكر في كل مرة بأنها نعمة من نعم الله على الإنسان. و بعد هذا العرض الحى لتلك المشاهد، الذي يخرج الحس من تبلده، فيعود يستعرض الأشياء كأنها جديدة عليه، وينفعل بها ويتحرك معها بعد هذا العرض كله يعقب بالحقيقة الكبرى التي يريد أن ينبه الإنسان إليها : ((أفمن يخلق كمن لا يخلق))؟
ويجئ السؤال بعد إثارة الوجدان بآيات الله في الكون على هذا النحو، فيتلقى إجابته من داخل النفس مؤكدة لا لبس فيها :
لا يا رب! ليس الذي يخلق كالذي لا يخلق! سبحانك أنت الخلاق العظيم.
ويختم السياق بما يزيد الوجدان إثارة ويزيد النفس ارتباطاً بالله : ((وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم))، و الآن، وقد استعرضنا هذا النموذج مفصلاً، تستطيع على ضوئه أن تقرأ النماذج الأخرى المشابهة في القرآن الكريم، ونكتفي بإثبات نموذجين اثنين منها :
((المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون(1) الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرض وسخر الشمس والقمر كل يجرى لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون(2) وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسى وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشى الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون(3) وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون)) (الرعد:1-4) .
((فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون(17) وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون(18) يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ويحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون (19) ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون (20) ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (21) ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك آيات للعالمين(22) ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك آيات لقوم يسمعون(23) ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً وينزل من السماء ماء فيحي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون(24) ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون))(الروم : 17-25) .
2- ظاهرة الموت والحياة :
يتحدث القرآن كثيراً عن ظاهرة الموت والحياة ليهز الوجدان بهذه الظاهرة المعجزة التي كثيراً ما يمر الإنسان بها دون أن يلتفت إليها، أو دون أن يعطيها حقها من الاهتمام، مع أنها جديرة – حين يلتفت إليها – أن تبعث في نفسه هذا التساؤل : من الذي خلق الحياة في الخلية الحية سواء أكانت نباتية أم حيوانية إنسانية؟ أي قدرة معجزة هي التي جعلت تلك الخلية تتحرك وتنمو وتكبر وتتشكل في أشكال شتى؟ أمن ذات نفسها؟ فلماذا إذن لا تتصرف الخلية الميتة على نفس الصورة؟ أليس هناك سر معجزة في هذه الخلية الحية؟ أليس الخالق سبحانه هو الذي أودع فيها ذلك السر المعجز: سر الحياة؟!.
ثم حين تموت تلك الخلية الحية، ويموت الكائن الحى: أين تذهب الحياة التي كانت سارية فيه؟ إننا نقول في بساطة إن ذلك الكائن قد مات، سواء أكان نباتاً أم حيواناً أم إنساناً. ولكن هل الأمر بهذه البساطة في الحقيقة؟ أليست ذات القدرة المعجزة التي وهبت الحياة للكائن الحى هي التي استردتها منه وتركته ميتاً بلا حياة ؟!.
إن العلم يحدثنا عن بعض مظاهر الحياة والموت، يقول لنا إن مظاهر الحياة في الكائن الحى أنه يتغذى، وأنه ينمو، وأنه يتحرك، وأنه يتكاثر.. ويقول لنا إن موت الكائن الحى هو وقف تلك الأعمال كلها، فلا يعود يتغذى أو ينمو أو يتحرك أو يتكاثر ، نعم! ولكن العلم لم يقل لنا، ولا يستطيع حتى اللحظة أن يقول لنا ما سر الحياة ذاتها، وما الذي يجعل الخلية الحياة تتصرف على هذا النحو، وعلى هذا النحو بالذات؟ ، ثم إذا سألنا العلم : لماذا تموت الخلية ولا تظل حية أبداً؟ ! لم يستطع أن يجيبنا إلا بأن الخلية تهرم وتضعف ثم تموت! نعم! ولكن لماذا يحدث ذلك؟! لماذا لا تستمر في الحياة؟ إن كل كائن حى يتشبث بالحياة ولا يحب أن يموت أبداً. حتى الذبابة إذا أردت أنتقتلها تفر منك لتبعد عن الموت.. ولكن لماذا تموت كل الكائنات؟ ترى لو كان أمر حياتها بيدها هل كانت تتخلى عن الحياة أبداً؟ كلا! ولكنها تموت لأن الله قضى عليها الموت! وهذا هو السر الحقيقى وراء كل الأسباب الظاهرة للعين!، الموت والحياة إذن كلاهما من عند الله. كلاهما مشيئة ربانية وقدر رباني .
وهذا هو الذي يغب عن الوجدان حين يتبلد حس الإنسان على المشاهد المكرورة. ويغيب عن العقل حين تنطمس بصيرة الإنسان لسبب من الأسباب الكثيرة التي ذكرناها من قبل، فيقول كما يحك؈_القرآن عن الدهريين : ((وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر))(الجاثية : 24).
أو يقول إن "الطبيعة" هي التي تخلق الحياة وتسلبها من الكائن الحى كما يقول دارون!، و يجئ القرآن فيزيل تلك الغشاوة عن النفوس، ويتحدث عن ظاهرة الموت والحياة حديثاً يهز الوجدان فيصحو من تبلده، ويتيقظ لحقيقة الألوهية التي يرجع إليها الموت والحياة.
((تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير(1) الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور(2) الذي خلق سبع سموات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور(3) ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير))(الملك : 1-4).
فالله الذي بيده الملك، والذي هو على كل شيء قدير، هو الذي خلق الموت والحياة، وما يستطيع غيره سبحانه أن يخلق الموت والحياة، فهما – بأسرارهما المعجزة – لا يقدر عليهما إلا من كان بيده مللك كل شيء، وكانت له القدرة التي لا يحدها شيء، ولا يعجزها شيء!، و هذا الإله القادر – سبحانه – الذي خلق الموت والحياة بقدرته، قد خلقهما لحكمة ((ليبلوكم أيكم أحسن عملا))، فاقتضت مشيئته أن يعيش الإنسان فترة معينة من الزمن على ؇ذه الأرض، يعمل فيها وينشط ويتحرك ثم يموت، ليبعث مرة أخرى ويحاسب على أعماله. وكذلك قضى – لحكمة يريدها- أن تموت الكائنات الحية كلها بعد فترة معينة من الحياة، هو الذي يقدرها سبحانه لكل واحد من الأحياء، التي تبلغ ملايين الملايين من المخلوقات منذ أنشأ الله الحياة على الأرض، إلى أن تقوم الساعة في اليوم الموعود .
والسياق القرآنى يلفت النظر إلى ظاهرة الحياة والموت في وسط الحديث عن آيات القدرة في الكون، ليوقظ الحس المتبلد إلى أن هذه الظاهرة من الضخامة والإعجاز بحيث تقترن بآيات الخلق المعجزة التي لا يقدر عليها إلا الله، فمن قبلها أشار إلى أن الله بيده الملك وأنه على كل شيء قدير، ومن بعدها يعود إلى ذكر الخلق: ((الذي خلق سبع سموات طباقاً)) ثم حين يقول : ((ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت))، فهو يدعو الإنسان إلى النظر في الكون الواسع، يتملاه بخياله، ويتأمل فيه بفكره، ليرى : هل هناك اضطراب أو خلل أو نقص في هذا الخلق الذي خلقه الله؟ : ((فارجع البصر هل ترى من فطور)) ؟.
وحين يتملى الإنسان ببصره وخياله وفكره هذا الكون الواسع وآيات القدرة فيه، ينفعل وجدانه بعظمة الله، وقدرته المعجزة، فإذا السياق القرآنى يطالبه بأن يرجع البصر كرة أخرى، ليبحث عن النقص أو الخلل في خلق الله! فهل يستطيع شيئاً من ذلك؟ أم يعود البصر عاجزاً حسيراً لا يقدر على هذه المهمة : ((ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير))! وعندئذ يكون الوجدان قد بلغ أقصى انفعاله، ووصل إلى غاية تأثره، فيقر إقراراً لا مهرب له منه بعظمة الله وجلاله، وقدرته التي لا تحدها حدود .
(( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14) ثم إنكم بعد ذلك لميتون (15) ثم إنكم يوم القيامة تبعثون (16) ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين (17) وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون (18) فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون) (المؤمنون : 12-19) .
((ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يجعله حطاماً إن في ذلك لذكرى لأولى الألباب ))(الزمر : 21) .
3- الرزق :
من أشد الأمور التي تربط القلب المؤمن بالله، بينما يغفل عنها الحس المتبلد، أمر الرزق الذي يجريه الله على الإنسان من السماء والأرض. فالمؤمن يشعر شعوراً دائماً بفضل الله عليه ورحمته؛ لأن الرزق الذي يفيضه الله على الإنسان من السماء والأرض.
فالمؤمن يشعر شعوراً دائماً بفضل الله عليه ورحمته؛ لأن الرزق الذي يفيضه الله على الإنسان دائم لا ينقطع، ولو انقطع لحظة واحدة لما أمكن للإنسان أن يعيش. وقد نتصور أحياناً أن الرزق محصور في الطعام والشراب، أو الملبس والمسكن، أو المال الذي نشترى به الأشياء، ولكن الرزق في الحقيقة أوسع من هذا بكثير، لا يمكن للإنسان أن يحصيه : ((وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)) (النحل : 18).
فهل خطر ببالك أن الهواء الذي تتنفسه مكون من عناصر رتبت ترتيباً ربانياً بنسب معينة لتجعل الحياة صالحة على ظهر الأرض، وأنه لو قلت نسبة الأكسجين في الهواء لتعذرت الحياة، ولو زادت لاشتعل كل ما على الأرض؟!.
وهل خطر ببالك أن الجاذبية القائمة بين الأرض والشمس من جهة، وبين الأرض والقمر من جهة أخرى قد قدرها الله سبحانه بحسبان دقيق : ((الشمس والقمر بحسبان)) (الرحمن:5). بحيث إنه لو كان جذب الشمس للأرض أكبر من قدره الحالى لاقتربت من الشمس أكثر، وصارت الحرارة عليها لا تطاق، فماتت لك الأحياء، ولو كان جذبها للأرض أقل لابتعدت عن الشمس أكثر، فصارت البرودة عليها لا تطاق، ولماتت كل الأحياء! وأنه لو اقترب القمر إلى الأرض فزادت الجاذبية بينه وبينها لطغى الماء – وقت المد – فأغرق كل سطح الأرض وأهلك كل الأحياء؟!.
وهل عرفت أن دورة الليل والنهار لازمة لحياة الأحياء، ولولاها ما استقامت الحياة ولا ترعرعت الأرض، لأن الكائنات الحية كلها تحتاج إلى وقت تسكن فيه، ووقت من نوع آخر تنشط فيه؟
((قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون(71) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون(72) ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون)) (القصص : 71 – 73) .
ذلك – وغيره – ومن ألوان الرزق التي ننساها أحياناً ونحن نعدد الأرزاق التي أفاضها الله على الإنسان، هي – إلى جانب أنواع الرزق الأخرى – نعم ربانية يذكرها القلب المؤمن بالحمد والشكر. ولكن الحس المتبلد يمر عليها بغير التفات، أو يجنح به الغرور أحياناً أن يقول كما يروى القرآن عن قارون: ((قال إنما أوتيته على علم عندى)) (القصص : 78)، أي حصلته بقدرتى وجهدى لا من عند الله !، لذلك يعرض القرآن موضوع الرزق بطريقة تهز الوجدان المتبلد ليتيقظ إلى الحقيقة، وهي أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأن الأرزاق كلها من عند الله، وأن الإنسان مهما بذل من جهد فهو لا ينشئها في الحقيقة، إنما يعمل فيها بسنة الله ومشيئته، ولكن المنشئ هو الله.
((أفرأيتم ما تحرثون(63) أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون (64) لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون (65) إنا لمغرمون(66) بل نحن محرومون(67) أفرأيتم الماء الذي تشربون (68) أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون (69) لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون(70) أفرأيتم النار التي تورون (71) أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون (72) نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين (73) فسبح باسم ربك العظيم))(الواقعة : 63 – 74) .
إن الإنسان يحرث الأرض ويلقى البذور فيها فيخيل إليه أنه هو الذي زرع! أي أنه هو الذي أنبت الزرع! فهل حقيقة هو الذي يصنع ذلك؟ وهل هناك قوة في الوجود كله – إلا القدرة الربانية المعجزة – تستطيع أن تحرك البذرة للنمو، وتخرج منها ذلك الزرع المختلف الألوان والأشكال والطعوم؟ ترى لو أن الله لم يودع هذه البذرة سر الحياة، هل كان أهل الأرض جميعاً يستطيعون أن يحركوها من مكمنها لتنمو وتثمر؟! من أجل ذلك يقول الله سبحانه وتعالى : ((أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون))؟ ثم يلفت الحس إلى جانب آخر من المسألة يغفل عنه الإنسان حين يتبلد حسه على المشهد المركور، فينسى ما فيه من إعجاز الله القدير، إن الإنسان تعود أن يرى الزرع نامياً ينتقل من مرحلة إلى مرحلة حتى تطلع الثمرة، فيظن – في غفلته- أن الأمور تسير هكذا من تلقاء ذاتها. وأنه لابد حين يضع البذرة أن تنمو حتى تخرج له الثمرة، وينسى أن الله هو الذي يخرجها له، من أجل ذلك يقول الله له : ((لو نشاء لجعلناه حطاماً فظللتم تفكهون(65) إنا لمغرمون(66) بل نحن محرومون))! فلو شاء الله لم ينتبه أصلاً، ولو شاء كذلك أنبته ثم جعله حطاماً دون أن يثمر! ولو حدث ذلك لظللتم تقلبون القول بينكم، تقولون: غرمنا جهدنا ومالنا ولم يثمر الزرع، أو تقولون: وقع علينا الحرمان!.
والإنسان يرى الماء نازلاً من السماء ولكنه يغفل – حين يتبلد حسه- عن أن الله هو الذي أنزله، فيتوهم أنه ينزل هكاذ من تلقاء نفسه، أو قد يصيبه الغرور كما وقع من الإنسان المعاصر الذي يعيش في الجاهلية الحديثة المسيطرة على الناس في أوربا مع كل ما عندهم من التقدم المادى، فيظن أنه هو الذي ينزل المطر من السماء؛ لأنه استطاع أحياناً أن يلقى مواد معينة بالطائرات فوق السحب فيسقط المطر !.
يغفل هؤلاء وهؤلاء عن الحقيقة، وهي أن الله سبحانه وتعالى هو الذي ينزل المطر في الحقيقة، بمشيئته وقدره، وبالسنة التي أودعها في الكون لتؤدى إلى تحقيق مشيئة الله وقدره. فإذا كان بخار الماء يتثاقل حين يبرد السحاب في طبقات الجو العليا، أو حين يصطدم السحاب بجبل مرتفع، فلا يعود الهواء قادراً على حمله، فينزل في صورة مطر.. فمن الذي صنع ذلك كله؟ من الذي جعل هذا من طبيعة بخار الماء؟ ترى لو أن الله لم يودع بخار الماء هذه الخصائص أكان المطر ينزل من تلقاء نفسه حين يتكاثف؟! وإذا كان إلقاء بعض المواد على السحاب بالطائرات يؤدى ذات الهدف فيجعل بخار الماء يبرد فيتكاثف فينزل في الصورة التي يسمونها ((المطر الصناعى))! فهل كانت طائرات الأرض كلها، والبشر جميعاً يقدرون على شيء من ذلك لو لم يسخر الله الماء لينزل من السماء إلى الأرض بحسب سنن معينة أودعها فيه؟!.
ومرة أخرى يلفت القرآن الحس إلى جانب آخر من المسألة، فإن المطر ينزل في صورة ماء عذب سائغ للشراب، فيظن الحس الغافل أنه ينزل على هذه الصورة من تلقاء نفسه! فيذكره القرآن بالحقيقة، إن الله هو الذي أنزله في صورته العذبة تلك رحمة منه بخلقه، وإنه لو شاء لجعله مالحا شديد الملوحة لا يصلح للشرب ولا لتنمية النبات أفلا يستحق الله الشكر على نعمته تلك؟ و الإنسان يوقد النار وينسى قدرة الخالق من ورائها، حين يراها ميسرة بين يديه يشعلها حين يشاء. فمن أنشأ الشجرة التي تتوهج الشجرة التي تتوهج منها النار؟ أليس هو الله سبحانه وتعالى الخالق المنعم الوهاب؟ وما يصدق على الشجرة يصدق على غيرها من الأوان الوقود الموجود اليوم كله من عند الله، ثم يذكر القرآن الإنسان بجانب آخر من المسألة: عن الله قد جعل هذه النار التي يوقدها الإنسان في الأرض تذكرة تذكره بالنار الكبرى التي تنتظره في الآخرة لو عصى الله، في ذات الوقت الذي جعلها متاعًا للمسافرين المحتاجين للدفْ ولما ينضجون عليه الطعام، وينتهي السياق حين يهز الوجدان بذلك العرض كله بدعوة الإنسان ـ وهو في حالة تأثره وانفعاله الوجداني ـ أن يسبح باسم ربه العظيم، الذي أفاض عليه كل تلك الأرزاق!
(( قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل ان ياـي يوم لا بيع فيه ولا خلال (31) الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجرى في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار (32) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار (33) وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار)) (إبراهيم : 31-34) .
((وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصاً سائغاً للشاربين(66) ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً إن في ذلك لآية لقوم يعقلون (67) وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون(68) ثم كلى من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون))(النحل : 66-69).
4- الأحداث الجارية :
تجرى الأحداث حول الإنسان وفي خاصة نفسه من مولده إلى مماته. بعضها أحداث كونية كالليل والنهار وتعاقبهما المستمر، وطلوع الشمس وغروبها، وطلوع القمر وتدرج أوجهه من أول الشهر حتى يكون بدراً ثم يتضاءل حتى يختفي، والسحاب والمطر والبرق والرعد وتعاقب الفصول.. إلخ. وبعضها أحداث في محيط البشر من ميلاد وموت، وصحة وضعف، وطفولة وشباب وكهولة وشيخوخة، وغنى وفقر، وعز وذل ... إلخ .
• أثر الأحداث التي تجرى في الحياة على المؤمن :
تمر هذه الأحداث على المؤمن فيجد لنفسه فيها عبرة،ت يعلم أن من ورائها تدبيراً حكيماً لإله حكيم، هو الذي يجرى الأحداث بعلمه وحكمته وقدرته، وهو الذي يدبر أمر الكون كله، فلا يحدث في هذا الكون الهائل العريض إلا ما يريده الله، ولا يتم أمر من أمور الكون إلا على الصورة التي يريدها الله.
• أثر الأحداث التي تجرى في الحياة على الغافل :
أما الغافل المتبلد الحس فيمر بهذه الأحداث، سواء منها الأحداث الكونية أو الأحداث التي تقع في محيط البشر، دون أن يتنبه من غفلته، ودون أن يتيقظ لما فيها من دلالة على وجود الله، وتفرده بالملك في هذا الكون، وتفرده بتدبير الأمر كله، ومن ثم تمر به الأحداث وهو سادر في غفلته لا يفيق!
ويجئ القرآن فيهزه من غفلته هزاً ليطلع على الحقيقة الكامنة وراء الأحداث! وكما يعالج القرآن آيات الله في الكون، وظاهرة الموت والحياة، وجريان الرزق، فيحيلها جديدة حية كأنما يتلقاها الإنسان لأول مرة، كذلك يعالج أمر الأحداث الجارية بما يزيل عن النفس غشاوتها، ويزيل عن المشاعر تبلدها، فينفعل الوجدان ويتأثر، ويتيقظ القلب ويستشعر.((إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجرى في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون)) (البقرة : 164).
في هذه الآية الواحدة يلفت القرآن الحس البشرى إلى مجموعة كبيرة من الأحداث الكونية التي يمر بها الإنسان الغافل دون تنبه إلى دلالتها، بحكم الإلف والعادة. ولكن القرآن يوقظ هذا الحس المتبلد ليرى هذه الآيات الكونية ويدرك أنها لا يمكن أن تحدث من تلقاء نفسها، ولكن وراءها تدبيراً وحكمة . و إذا تدبرنا الآية نجد أن القرآن يصل إلى الغاية المقصودة – وهي إيقاظ الحس المتبلد – بطريقتين في آن واحد :
الأولى : هي حشد عدد كبير من الأحداث الجارية في معرض واحد، فهناك السماوات والأرض، وهناك اختلاف الليل والنهار ( بمعنى تعاقبهما المستمر، وبمعنى اختلاف طولهما على مدار الفصول) ، وهناك جريان السفن في البحر، وهناك المطر النازل من السماء، والحياة النابتة في الأرض، والدواب المنبثة في أرجائها، وهناك تصريف الرياح، وهناك جريان السحاب المعلق بين السماء والأرض... وهذا الحشد ذاته يوقظ الحس. فقد يتبلد هذا الحس فلا يلتفت لتلك الأحداث الجارية وهي فرادى، كل منها يقع على حدة في وقت منفصل عن الآخر، ولكنها حين تحشد هكذا وتعرض بهذا التوالي وبذلك التجمع فإن الحس لابد أن يستيقظ،وهو يتتبعها بخياله واحدة إثر الأخرى، فلا يجد فرصة يغفل فيها أو يستنيم، وهي تلاحقه بهذه السرعة، لا يكاد ينتهي من تتبع واحدة حتى تكون الأخرى قد لحقته!
والثانية : هي ربط الوجدان بهذه الأحداث عن طريق لفت الحس إلى الحركة الدائبة في هذا الكون فالمشهد الثابت الذي لا يتحرك قد يسهل على الحس أن يتعود عليه فيتبلد ولا يعود المشهد يثيره أما الحركة المستمرة فلا يمكن للحس أن يتبلد إزاءها، ولابد أن يلتفت ويتيقظ.
فالآية تبدأ بخلق السماوات و الأرض، وهو حدث قديم لم يشهده الإنسان ولكنه يرى آثاره ماثلة أمامه. ولكن السياق القرآني لا يدع صورة الخلق ساكنة أمام الحس بل يحرك الصورة بتحريك مفرداتها. فالليل و النهار يدوران ويختلف طولهما في أثناء تعاقبهما المستمر، والفلك تجرى في البحر بما ينفع الناس، والماء النازل من السماء يتسم بالحركة كذلك، وهي حركة النزول نحو الأرض. ولكن الحركة لا تنتهي هنا: فمن هذا المطر النازل يخرج النبات الحي من الأرض التي كانت مجدية من قبل، والتعبير القرآني يقول : ((فأحيا به الأرض بعد موتها)) فيصور الأرض كانت ميتة فتحركت بالحياة بعد نزول المطر، كما يقول في سورة الحج: ((وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج)) (الحج : 5) ، و لكن الحركة لا تنتهي هنا كذلك؛ بل تستمر لتصور الدواب جاءت تسعى أكل النبات الذي أخرجته الأرض بالمطر، والتعبير القرآن يقول : ((وبث فيها من كل دابة)) والبث حركة في جميع الاتجاهات في وقت واحد ثم يجئ ذكر الرياح وهي متحركة بطبيعة الحال، فإنها لا تسمى رياحاً إلا إذا تحركت حركة شديدة ملموسة. وأخيراً يذكر السحاب متحركاً كذلك مسخراً بين السماء والأرض، وهكذا تشمل الحركة كل الكائنات، و يتملاها الحس في حركتها الدائبة فينفعل بها ويتحرك معها.
ولا تنس كذلك أن التعبير القرآني يلفت الحس البشرى في أثناء عرض هذه الحركة المستمرة إلى الله سبحانه وتعالى، الذي تحرك قدرته كل هذه الأحداث: ((وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة))، وهكذا يذكر لفظ الجلالة الصريح مرة ويعود الضمير عليه مرتين متواليتين بعد قوله (فأحيا) وقوله (وبث)، ثم يلفت إليه الحس مرتين أخريين في قوله تعالى : ((وتصريف الرياح)) وقوله : ((والسحاب المسخر))، إذ الإشارة واضحة إلى أن الذي يصرف الرياح هو الله، والذي يسخر السحاب هو الله.
وبهذه الوسائل كلها يوقظ القرآن وجدان البشر إلى الأحداث الجارية في بنية الكون وفي حياة الناس، (( قل أللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير(26) تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى وترزق من تشاء بغير حساب))(آل عمران : 26، 27).
((الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفاً فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون(48) وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين (49) فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير(5.) ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا من بعده يكفرون (51) فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين(52) وما أنت بهاد العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون(53) الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير)) (الروم : 48-54)