صفات الرسل
1- بشريتهم :
كل الرسل الذين أرسلوا من عند الله للناس كانوا بشراً، وكانوا ينطقون بلغة أقوامهم الذين أرسلوا إليهم.
ولله في ذلك حكمة كانت تخفي على الجاهليات التي بعث إليها أولئك الرسل ولكنها لا تخفي على من يتدبر الأمر ببصيرة .
لقد كانت الجاهليات تأخذ الأمر من جانب التكذيب لا من جانب التصديق. ولذلك كانت الحكمة تخفي عليها!
كانوا يكذبون ابتداءاً بالوحي، ويعتبرونه شيئاً غير قابل للتصديق! ثم يبنون على ذلك تصورات خاطئة من عند أنفسهم. كانوا يقولون : إنه لا يمكن أصلاً أن يوحى الله إلى واحدن من البشر بشيء! ذلك أن تصورهم لقدرة الله ناقص ومحدود: ((وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء))(الأنعام:91).
وتصورهم كذلك للطاقة البشرية محصور في نطاق ذواتهم فحسب. ولما كانوا هم لا يتلقون وحياً ولا يخطر في بالهم أن يتلقوا شيئاً من الوحي قط، فهم يقيسون كل البشر على أنفسهم، فيقولون: إنه لا يمكن أن يتنزل الوحي على أى واحد من البشر على الإطلاق! ((وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أتن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً)) (الإسراء : 94).
((وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب)) (ص:4).
ثم يرتبون على هذه الاستحالة تصوراً آخر خاطئاً، فيقولون: إنه إذا كان الله يريد فعلاً أن يصنع هذه العجيبة الخارقة وهي تنزيل الوحي، فلابد أن يكون كل ما يتعلق بهذه الظاهرة عجيباً وخارجاً عن تصور البشر. ومن ثم فلا يجوزب- في نظرهم – أن يتنزل هذا الوحي على واحد من البشر لأن الكيان البشرى شيء عادى ومألوف، فلا يتناسب معهم ذلك الشيء غير المألوف وهو الوحي! إنما الذي يتناسب معهم – في وهمهم – هو عجيبة أخرى خارقة، هي نزول ملك من السماء يتنزل عليه الوحي، أو – في القليل – يكون مع الرسول الذي يتنزل عليه الوحي ((فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين))(المؤمنون :24).
((وقالوا لولا أنزل عليه ملك ))(الأنعام:
((وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً))(الفرقان:7).
وهكذا نرى ضلال الجاهليات من خلال تصوراتهم الضالة عن قدرة الله وحدود الطاقة البشرية، يعميعها عن حكمة إرسال الرسل من البشر دون الملائكة .. ولو قدروا الله حق قدره وعرفوا أن قدرة الله ليست محدودة بحدود تصورهم الضيق، وإنما هي قدرة بغير حدود: ((إن الله على كل شيء قدير))(النور:45).
ولو عرفوا أن الطاقة البشرية ليست محصورة في نطاق ذواتهم ولا في نطاق علمهم، وأن هناك جوانب من النفس البشرية تخفي على العلم وإن بدت آثارها واضحة كظاهرة التفكير والتذكر ، وجوانب أخرى أشد خفاء لا يكاد الإنسان يعرف لها كنها كظاهرة بالتخاطر عن بعد، وأن الله يصطفي أفراداً من البشر فيمنحهم القدرة على تلقى الوحي بأجهزة خاصة في داخل نفوسهم دون أن يخرجهم ذلك عن حدود بشريتهم.. لو عرفوا ذلك كله ما عجبوا أن جاءهم منذر منهم، وما استنكروا هذا الاستنكار فقالوا: أبعث الله بشراً رسولاً؟! وما طلبوا هذا الطلب الساذج: لولا أنزل عليه ملك؟!
لقد غفلوا في طلبهم ذلك عن عدة أشياء :
( أ ) أن الملائكة لا يمشون في الأرض مطمئنين كالبشر، لأنهم لم يخلقوا لسكنى الأرض! ((وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً(94) قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً))(الإسراء : 94،95).
(ب) أن الملك لو نزل على الأرض فلابد له أن يتخذ صورة البشر، عندئذ لا يستطيعون أن يتعرفوا على حقيقته الملائكية، ولا أن يميزوا بينه وبين سائر البشر ((ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون))(الأنعام:9).
(ج) أن من سنة الله حين تكذب الجاهلية رسولها وتصر على التكذيب بعد نزول الآية التي يطلبونها لكى يتأكدوا من صدق رسولهم، فإن الله ينزل الملائكة عندئذ، ولكنه ينزلهم بأمر معين هو التدمير الفورى على أولئك الكافرين: ((وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضى الأمر ثم لا ينظرون))(الأنعام:
.
((يوم يرون الملائكة لا بشرى يؤمئذ للمجرمين ويقولون حجراً محجوراً))(الفرقان:22).
(د ) أن الحكمة متنفية تماماً في جعل الرسول من غير البشر أنفسهم، إن الرسول لا يأتى للتبليغ فقط، أى إنه لا يأتى ليبلغ أمراً معيناً من عند الله ثم يمضى. وإنما يمكث مع الناس حتى يربى فئة منهم على الحق يكون هو بذاته القدوة العملية لهم، ويكونون هم بدورهم قدوة للناس: ((ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا على الناس))(الحج:78).
فأين تتحقق القدوة إذا كان الرسول من غير البشر؟! ألا يقول الناس يومئذ: هذا ملك ونحن بشر! لنا أجساد ونزعات وشهوات!؟ بلى ! سيقولون! وسيمتنعون عن الالتزام بأمر ربهم بحجة أن هذا الالتزام ليس في وسع البشر ولا هو من شأنهم إنما هو من شأن الملائكة الذين لا يسكنون هذه الأرض، ولا يحسون بثقلة الأرض تشدهم عن طريق الرغبات والشهوات! وعندئذ سيقولون: كيف يرسل الله إلينا ملكاً ويطلب منا الاقتداء به في أعماله! أفلا يرسل إلينا بشراً مثلنا، يحس كما نحس ويفكر كما نفكر، ويشعر بضروراتنا وبحدود طاقتنا؟!
وتلك هي الحكمة الكبرى من إرسال الرسل بشراً، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، حتى لا يقف اختلاف الجنيس حائلاً بين الناس وبين الاقتداء برسولهم فيما يفعل وما يقول، وحتى تتمثل الأسوة للبشر في واحد من جنسهم، له ذات تركيبهم، وذات مطالبهم، وذات ضروراتهم البشرية من طعام وشراب وملبس ومسكن.. إلخ.
حقيقة إن الرسل – إذ يصطفيهم الله ليبعثهم إلى الناس – يصوغهم صياغة خاصة تتناسب مع هذا الأمر العظيم، وتكون لهم طاقات تفوق طاقات البشر العاديين، فضلاً عن أن نزول الوحي إليهم واتصالهم المباشر بالله عن طريق الوحي يعمق في نفوسهم معانى لا يمكن أن تبلغ ذلك المدى عند البشر العاديين.
نعم، ولكن هذه خصوصيات يختص الله بها رسله ولا يكلف البشر أن يصلوا إليها، لأنهم لا يستطيعون الوصول إليها بجهدهم البشرى! ولكن المهم في الأمر أن صفة البشرية لا تفارق الرسول: ((قل سبحانه ربى هل كنت إلا بشراً رسولاً))(الإسراء:93).
((قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى إنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاص صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً))(الكهف:11.).
ومن ثم فالقدوة فيه متمثلة فيما ليس من خصوصيات الرسل وهذا هو الذي يكلف الله به عباده: ((فاتقوا الله ما استطعتم واسمعموا واطيعوا))(التغابن:16).
((لا يكلف الله نفساً إلا وسعها))(البقرة:286).
أى أن كل التكاليف التي كلف الله بها البشر هي في حدود طاقتهم لأن الله لا يكلف النفوس فوق وسعها، وهو العليم بحقيقة طاقتها .
أما حكمة إرسال الرسل بلغات أقوامهم فهي واضحة بلا شك: ((وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم))(إبراهيم : 4).
2- عصمتهم :
الرسل معصومون فيما يبلغون عن الله. فهم لا يخطئون في التبليغ عن الله، ولا يخطئون في تنفيذ ما أوحى الله به إليهم. عصمهم الله من الخطأ في هذه وتلك ((وذلك من خصوصياتهم)).
أولاً : لأن الأمر لا يستقيم إذا أخطأ الرسول في التبليغ عن الله، إذ ليس لذلك إلا إحدى نتيجتين – كلتاهما خارجة عن التصور: إما أن يسكت الوحي عن تصحيح الخطأ، ومعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يبلغ الناس أمراً معيناً ثم رضى جل جلاله أن يبلغ عنه غير ذلك الأمر.. وهذا لا يجوز في حق الله تبارك وتعالى .
وإما أن يتنزل الوحي بالتصحيح، فيعود الرسول فيقول للناس : إن الله أمرنى أن أبلغكم كذا وكذا، ولكنى أخطأت في التبليغ، وإليكم الآن تصحيح البلاغ! وينتج عن ذلك لا محالة أن يفقد الناس الثقة فيما يبلغهم إياه الرسول عن ربه لأن احتمال الخطأ في التبليغ قائم في أذهانهم .
وكلا هذين الأمرين خارج عن التصور لأنه يتنافي مع الحق الذي يتنزل به الوحي، ومع التوقير والتعظيم اللازمين لكلام الله سبحانه وتعالى، ومع وجوب الطاعة للرسل صلوات الله وسلامه عليهم: ((وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ))(النساء : 64).
ثانياً : ولا يستقيم الأمر كذلك إذا أخطأ الرسول في تنفيذ ما أوحى الله به إليه؛ لأن القدوة تنتفي يومئذ، ويضطرب الأمر في نفوس الأتباع الذين اتبعوا الرسل فلا يعرفون أى طريق يسلكون. وفضلاً عن ذلك تذهب جدية الأمر من مشاعرهم. فالمفروض في الشخص المؤمن أن يجتهد في اتباع ما أنزل الله قدر جهده ليكون أقرب إلى الصواب. فإذا كان القدوة أمامه – وهو الرسول – يخطئ في التنفيذ، فسوف يحس هو أنه في حل من أن يخطئ! وليس عليه أن يتحرى الصواب، فهو ليس أفضل من الرسول المؤيد بالوحي، وعندئذ ينفرط عقد الأمر ولا يعود للدين ما أراده الله له من تعظيم في نفوس المؤمنين.
حقاً قد يحدث في تصرفات الرسل الشخصية – في غير ما يتعلق بالوحي – أو في اجتهادهم الشخصية ما يستوجب التصحيح أو التعديل من قبل الله سبحانه وتعالى، كما وقع لنبى الله داود حين حكم لأحد الخصمين قبل أن يستمع لقول الخصم الآخر :
(( وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب(21) إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط(22) إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزنى في الخطاب(23) قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيراً من الخلطاء ليبغى بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقلي لما هم ))(ص:21-24).
وكما وقع من عبوس الرسول صلى الله عليه و سلم في وجه ابن أم مكتوم إذ جاءه يطلب الإسلام والاستماع إلى كلام الله، والرسول صلى الله عليه و سلم مشغول عنه يرجوا إسلام أبى جهل عمرو بن هشام، فلما ألح عليه ابن أم مكتوب تضايق صلى الله عليه و سلم وعبس في وجهه :
((عبس وتولى(1) أن جاءه الأعمى(2) وما يدريك لعله يزكى(3) أو يذكر فتنفعه الذكرى(4) أما من استغنى(5) فأنت له تصدى(6) وما عليك ألا يزكى(7) وأما من جاءك يسعى(
وهو يخشى(9) فأنت عنه تلهي(10) كلا إنها تذكرة))(عبس : 1-11).
أو كاجتهاده عليه الصلاة والسلام في أمر الأسرى في وقعة بدر، إذ قيل مبدأ أخذ الفداء من الأسرى بدلاً من قتلهم كما اقترح عليه عمر بن الخطاب رضى الله عنه فنزل الوحي مؤيداً لرأى عمر :
((ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم(67) لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم(68) فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً واتقوا الله إن الله غفور رحيم))(الأنفال : 67-69).
ومثل هذه الأشياء لا تقدح في عصمة الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه. بل هي أقرب لتوكيد بشريتهم. فهم بشر عرضة للخطأ في التصرفات الشخصية والاجتهادات الشخصية، ولكنهم معصومون من الخطأ فيما يتعلق بالوحي تبليغاً أو تنفيذاً . وهذا يجعلهم أقرب للقدوة والأسوة، فلو أنهم اصبحوا بعد بعثتهم نوعاً آخر من الخلق غير بقية البشر، لا يقع في تصرفاتهم كلها ما يقع للبشر العاديين؛ لأصبحت القدوة بهم عسيرة، ولقال الناس لأنفسهم: هؤلاء الرسل ليسوا مثلنا في أى شيء فكيف نقتدى بهم؟! ومن جهة أخرى يبقى الوحي – وما يتصرف به الرسل طبقاً للوحى – أمراض ثقائماً بذاته، لا ينتابه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فتجيب له الطاعة الكاملة : ((والنجم إذا هوى(1) ما ضل صاحبكم وما غوى (2) وما ينطق عن الهوى(3) إن هو إلا وحى يوحى))(النجم:1-4).
((وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله))(النساء : 64).
1- مجال القدوة بهم :
يبعث الله رسله من صفوة خلقه، ويختارهم من ذوى الصفات التي تصلح للأسوة والقدوة، ذلك أن الرسل هم هداة البشرية، وهم معلموها ومربوها، وقادتها الذين يقودونها إلى الخير. فلزم من ذلك أن يكونوا هم بذواتهم القدوة في كل ما يدعون إليه من مكارم الأخلاق.
ولقد علم الله سبحانه وتعالى من طبيعة البشر، وهو خالقهم العليم بهم أنه لا يكفي في هدايتهم أن يسمعوا الحق تلقى إليهم. بل لابد أن يروها مجسدة في كيان بشرى يتمثلها ويترجمها إلى واقع حى مشاهد وملموس، وعندئذ تكون قريبة إلى حسهم، قريبة إلى وجدانهم، وتكون أيسر عليهم في التحقيق وفي التطبيق.
لذلك لا ينزل الله سبحانه وتعالى وحيه في قراطيس يقرؤها الناس، وهو القادر سبحانه – لو شاء – أن ينزل على كل بشر قرطاساً يقرؤه! وإنما ينزل كلماته على قلب بشر، يصنعه على عينه، ويمنحه من الصفات ما يجعله خير أداة لحملها، وخير نموذج لتقديمها للناس.
إن الله يدعو الناس بادئ ذى بدء إلى الإيمان به وحده بغير شريك، ويبعث الرسل ليقولوا للناس: ((اعبدوا ما لكم من إله غيره))(هود : 5.،61،84).
ثم يدعوهم إلى صورة معينة من العبادة تتمثل في شعائر تعبدية وأوامر ونواه تنظم حياة البشر على الأرض، وتقيم بينهم العدل الربانى الذي ينبغى أن تقوم عليه حياتهم : ((لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ))(الحديد :25).
ويرى الناس الإيمان المطلوب – أول ما يرونه- متمثلاً في سلوك الرسول الذي يدعوهم إليه، فهم يرونه يدعو إلى عبادة الله الواحد غير مستند إلى جاه أو سلطان، بل متحدياً بدعوته كل جاه أو سلطان!
إنه يجئ والملأ مستكبرون في الأرض بغير الحق، يستعبدون الناس بغير سلطان شرعى، لأنهم لا يحكمون بما أنزل الله، فيعلن كلمته البسيطة التي تدوى في آذان الملأ كالصيحة المدوية: ((اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)). ويدرك الملأ على الفور أه هذه الكلمة البسيطة، المدوية في ذات الوقت، معناها تنحيتهم عن سلطتهم الطاغية التي يستعبدون بها الناس، ورد العبودية لله وحده، يستوى في ذلك الملأ والمستضعفون على حد سواء !
ولا يسلم الملأ ما في أيديهم من السلطة الغاشمة بسهولة! بل يقومون يتحدون الرسول ويناوئونه ونياصبونه العداء، ويرى الناس الرسول المرسل إليهم يقف وحده إزاء السلطان الغاشم لا يستند إلى شيء من قوى الأرض، بل يستند إلى الله تعالى، إنه يحقق معنى الإيمان بالله في صورة ملموسة مشهودة، لا في صورة كلمات تنطق بها الأفواه أو شعارات معلقة في الفضاء !
ويشتد الأذى بالرسول من اضطهاد الملأ الواقع عليه، فلا يلجأ إلى مداهنة القوم ولا ملاينتهم على حساب دينه وعقيدته. ويرى الناس مرة أخرى صورة واقعية لعمق الإيمان بالله. إنه ليس إيماناً سطحياً يتحطم تحت الضغط مهما اشتد، ولا إيماناً وقتياً يتبخر تحت وطأة الأحداث! إنما هو الإيمان الراسخ الذي يزداد عمقاً مع اشتداد الأحداث.
ويتعرض الرسول في كثير نمن الأحيان إلى التهديد بالنفي أو السجن أو القتل فلا يتزحزح عن موقفه الصلب، ولا تؤثر عليه كذلك المغريات التي يتعرض لها أحياناً كوسيلة من وسائل الحرب ضد عقيدة التوحيد ودعاة التوحيد! ويلجأ الرسول إلى الله وحده يدعوه أن ينقذه مما يلقاه من عنت الجاهلية وينجيه من مكرهم وكيدهم. ومرة أخرى يرى الناس الصورة الحية للإيمان العميق كيف تكيف المشاعر وتوجه السلوك.
عندئذ لا يكون الإيمان دعوى، ولا صورة مبهمة غير متميزة الملامح. إنما يكون صورة واقعية ملموسة، يدرك الناس معناها الشعورى والسلوكى، ويقتدى بها المؤمنون الذين استجابوا لدعوة الإيمان.
ثم إن الله يطلب من الناس أخلاقاً معينة يتخلقون بها، وتجرى تعاملاتهم بمقتضاها. يطلب منهم الصدق والإخلاص والأمانة، والصبر والثبات والشجاعة، والكرم والمروءة والتحاب في الله، والبعد عن الفواحش والبغى والإثم.. ويحتاج ذلك كله إلى قدوة يقتدى بها الناس .
إن الناس قد يعرفون هذه المعانى كلها نظرياً، يعرفونها مما سمعوا عنها في القصص أو قرءوا عنها في التاريخ! .. ولكن ذلك وحده لا يحفزهم إلى الاقتداء بها والتخلق بما تقتضيه من أخلاق! إنما يحتاجون إلى أن يروها ممثلة أمام أعينهم في واقع بشرى لتسهل عليهم القدوة وتكون قريبة المنال .
ويعلم الله من خلقه أنهم يحتاجون إلى ذلك، فيرسل إليهم الرسل نماذج حية لكل المعانى التي يريدها الله من خلقه. نماذج للصبر على الشدائد وتحمل الأذى في سبيل الله. نماذج للثبات على الحق بأى ثمن ولو كان الثمن هو الحياة ذاتها أو هو الأمن والسلامة والاستقرار. نماذج للحب والمودة الصافية التي لا تطلب لذلك مقابلاً شخصياً ولا منفعة قريبة. نماذج لاستقامة الطبع والصراحة وعدم المداراة في الحق .
وباختصار: هم نماذج لكل حميد من الخلق وحميد من الخصال، والقدوة متمثلة في كل ما يصدر عنهم من أقوال أو أفعال .
ولكن الدعاة والمصلحين بالذات لهم في الأنبياء والرسل قدوة خاصة .
إن الدعاة هم ورثة الأنبياء. وهم يتعرضون لكثير مما يتعرض له الرسل والأنبياء . يتعرضون للأذى من المستكبرين في الأرض الذين يكرهون كلمة الحق لأنها تكشف حقيقتهم للناس. و يتعرضون للصد حتى من الجماهير التي قاموا لتخليصها من الذل والظلم والهوان . و يتعرضون لليأس من أن يكون جهادهم ذا ثمرة، أو أن يروا ثمرة جهادهم في عمرهم القصير المحدود.
لذلك يحتاج الدعاة بصفة خاصة أن يتأسوا بالأنبياء والرسل: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ))(الأحزاب:21).
ويحتاجون بصفة خاصة أن يتأسوا بهم في الثبات والصبر والتحمل، والتوكل على الله وتفويض الأمر لله، فإن ذلك من ألزم مستلزماتهم في جهدهم الشاق الذي يبذلونه في سبيل الله .
والقرآن يوجه رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقتدى بالأنبياء والرسل من قبله: ((أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين(89) أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده))(الأنعام:89،9.). فكيف يكون حالنا نحن البشر العاديين؟ ألسنا أحوج إلى القدوة وأحوج إلى إلى الالتزام؟