تفسير آية قرآنية
قوله: }فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ{ ،) )البقرة: 206
حسب هذا الذي تأخذه العزة الجاهلية، وبقوته الوهمية جهنم، فهي مكافأته وكافيته على قدره، وهي
جزاؤه، ولفظ جهنم علم على دار العقاب المتقدة نارا، جاء من لغة غير عربية، ولذلك منع من الصرف للعلمية والعجمة، وأرجع بعضهم أصلها إلى اللغة الفارسية وهو كهنام أو أنها من أصل عبري وهو كُهنام، وسماها القرآن في عدة آيات نارا، وقودها الناس والحجارة ليشتد لهيبها على من يستحقها، وهي بئس ما يُهيأ لصاحبها للنوم، ويُمهد له مهادا يصلى ظهره وجنبه ليذوق العقاب الأليم.
}وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللِّه وَاللُّه رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ{ ،) )البقرة: 207
هذا صنف آخر من الناس تمحض فعله للخير، ولو عرض بنفسه وهي أغلى ما لديه للموت، لتحصيل ما يرضي الله من أفعال الخير. ومعنى يشري يبيع، ويقصد به هنا أنه يبذل نفسه ابتغاء مرضاة الله، ونصر دينه، ويدل ذلك على أعلى درجات الإيمان وأقواها.
ومرضاة الله رضاه، ومرضاة مصدر رضي، زيدت فيه التاء سماعا لا قياسا، مثل المدعاة و المسعاة و في أسباب النزول أنها نزلت في صهيب بن سنان الملقب بالرومي، وكان غنيا، ومن أوائل من أسلم فهاجر إلا أن جماعة من قريش لحقوه قصد الإمساك به، فنزل من راحلته، وأخذ كنانته، وكان من أبرع الرماة، وقال لهم: لقد علمتم أني من أرماكم وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بما في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فقالوا لن نتركك تخرج من عندنا غنيا، وقد جئتنا صعلوكا، ولكن دلنا على مالك، نتخلى عنك، وعاهدوه على ذلك، فدلهم على ماله، فلما قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له حين رآه: ربح البيع أبا يحي، وتلا عليه هذه الآية الكريمة، والأظهر أن الآية عامة تشمله وغيره ممن يبذل نفسه في سبيل الله، والله بهؤلاء رؤوف ويدخلهم في رحمته الواسعة.
والعباد لفظ مستغرق لجميع العباد على تفاوت بينهم في تناول الرحمة، فمنهم من تناله في الدنيا فقط، مثل المشركين و الكفار الذين أعطاهم الرزق والعافية، كما يجوز أن يكون» ال« لتعريف العهد، أي رؤوف بالعباد الذين هم من هذا القبيل الذي يهب نفسه ابتغاء مرضاة الله، كما يجوز أن تكون» ال« عوضا عن المضاف إليه، أي بعباده، مثل قوله تعالى: }فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ أْملَْوَى{)النازعات: 41 (، أي مأواه، وإذا أضيف العباد إلى اسم الجلالة فإنه يرا دبه ا لعباد المقربون.قال تعالى): }إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ{الحجر: 42وعدل عن الإضمار إلى الإظهار بدل أن يقول رؤوف بهم ليكون هذا التذييل مستقلا بنفسه بمثابة المثل، فسبب رأفته بهم أنهم جعلوا أنفسهم عبادا له، فقد كان صهيب عبدا للروم، ثم لبني كلب من قريش وعذب في الله، فصار عبدا مقربا، فرأف به وأدخله في رحمته، وفي الآيات السابقة معان رفيعة من أدب النفوس ومراتب أخلاقها، يتعلم المؤمنون منها واجب التوسم في الحقائق، ودواخل الأمور، وعدم الاغترار بالظواهر إلا بعد التجربة، فإن من الناس من يغر بحسن ظاهره، وباطنه سوء، وله من حلاوة اللسان وهو يضمر الشر والكيد وهذا يشير إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم »إن من البيان لسحرا « و هو من جوامع الكلم، ومن الناس من تبلغ درجة نفاثة أو ضعف دينه حدا يشهد الله على أن ما يقول صدق وحق، يبيت بذلك في نسفه الكيد والمكر.
والباطن علامته تبدو في تصرفات المرء، وحبه للفساد وإهلاك الحرث والنسل، يصدر في ذلك عن
ضمير سوء، فلا يُصغي إلى دعوة الحق إذا دعي إليه، ويعتز بالظلم والاستكبار، ولا يرعوي عن غيه، ويصعب عليه أن يتخلى عن أخلاقه الذميمة، أما الذي لا يشح بنفسه في نصرة الحق، فإن خلقه وسلوكه ينبئان عن الخير، وإيثار الحق والصدق على الباطل والكذب والفساد.
}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ{البقرة: 208
في هذه الآية استئناف للدعوة إلى الدخول في السلم، فالذي سبق في الآية من قبل يشتمل على من يعتدي على المسالمين، وهذه مناسبة أن يدعى الناس إلى اعتناق السلم، وهذا خطاب للمسلمين على عادة القرآن في النداء بيا أيها الذين آمنوا، ويقصد بالدخول الاتباع والالتزام، وشدة التلبس بالفعل، والتعلق به، والسلم يقرأ بفتح السين وكسرها مع سكون اللام، ويقال أيضا:
سلمٌ بفتح السين واللام معا، وحقيقته الصلح، وتجنب الحرب، واشتقاقه من السلامة وهي النجاة من الضر، ويطلق على دين الإسلام، والمعنى العام هو المسالمة، والأمر بالدخول فيها، وتجنب القتال وإذا قصد به الإسلام، فيقصد به زيادة التمكن منه، والتغلغل فيه، دخل الإيمان في قلبه بمعنى استقر فيه وتمكن، والمراد يقال بالدخول الدوام على ذلك، ويراد أيضا من السلم معناه الحقيقي بأن يسود السلم بين المسلمين، وألا يكون بعضهم حربا على بعض كما كانوا عليه في الجاهلية، وفي أيامنا
هذه البئيسة من 1434 ه، وفي لا ترجعوا « : خطبة حجة الوداع بعدي كفارا يضرب بعضكم وتدعو الآية بذلك ،» رقاب بعض إلى إصلاح أحوال العرب في الجاهلية، وتدل الآية على أن السلم أصل في الإسلام وهو رفع التقاتل والتهايج بين الناس، وأن يكونوا أيضا في سلم مع الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه؟.
وقد أطلقت الحرب على المعصية في قوله: }فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللِّه وَرَسُولِهِ{ البقرة: 279
وكلمة كافة تفيد الإحاطة والشمول، وتوكيد ذلك، وهي حال من ضمير » ادخلوا « أي جميعا لا
يستثنى منكم أحد، ويمكن أن تكون حالا للسلم. }وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ{: هذا تحذير من كل ما يصد عن الدخول في السلم من مسالك الشيطان ومكايده.
}فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ{ البقرة: 209
المعنى فإن اتبعتم خطوات الشيطان فزللتم، والزلل هو الزلق، يطلق على اضطراب القدم في الموضع الذي يقصد أن تثبت فيه، والمقصود هنا الضرر الذي يحصل من اتباع خطوات الشيطان، تشبيها بزلل الرِجل في المشي بالطريق المزلقة، وذلك بعد ظهور البينات من الأدلة والمعجزات، فالمجيء وهو ظهور الشخص القادم بعد غيبته، إذا وقع ذلك فإن الله عزيز لا يغلب، إذا عاقب لا يفلت منه من اتبع الشيطان ولم يتب، وهو قوي في حكمه ومحكم متقن لشؤونه، وهم يعلمون أنه عزيز حكيم.
ولكن المقصود الوعيد، فهو عزيز لا يهن لأحد وحكيم يضع الأمور في نصابها ومواضعها، وأعذرهم فلا تبقى لهم حجة بعد ظهور هذه البينات