سورة البقرة من سورة 93 إلى غاية 150
يذكر الله تعالى الموقف الخامس عشر.من المواقف التى يذكرهم فيها رب العزة بنعمه عليهم .
إذ يقول تعالى:
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [الآية 93]
أي : اذكروا يا بنى إسرائيل .. حينما أخذنا عليكم العهد والمواثيق بالإيمان بالله ، واتباع رسله، وذلك وقت أن رفعنا الجبل فوق رؤسكم ، لتقروا بما عوهدتم عليه ، ولتأخذوه بقوة وجِد، وقلنا لكم اسمعوا أي امتثلوا ، والتزموا بأحكامه، فماذا فعلتم ..؟، لقد قلتم سمعنا وعصينا أي : سمعنا بآذاننا ، وعصينا بقلوبنا وأفعالنا، فهل هذا يليق بمن يقولون تؤمن بما أنزل علينا ؟، لا والله لقد وصل حب عبادة العجل عندهم حداً كبيراً ، حتى صار كأنه شيئاًَ شربوه - لا بأفواههم ، بل – بقلوبهم، وكل ذلك بسبب كفرهم، قل لهم يا محمد، إن كان إيمانكم يأمركم بذلك : فبئست هذه الأشياء التى يأمركم إيمانكم بفعلها، بل كيف تدعون الإيمان .وأنتم تمارسون هذه الأفعال القبيحة من : نقضكم المواثيق ، وكفركم بآيات الله ، وعبادتكم العجل من دون الله.
وبعد ذلك : يكون الاختبار العملى .. لكشف حقيقة إيمانهم الذى يدعونه، استمعوا معى إلى هذه الآية الكريمة .
{ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [الآية 94]
حقاً إنه اختبار شاق وامتحان عسير !! وكانت النتيجة بالرغم من كثرة إدعاءاتهم، وعلوِّ أصواتهم : أنهم أحجموا عن تمنى الموت، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم (ولو أن اليهود تمنوا الموت : لماتوا ، ورأوا مقامهم من النار)، وليس هذا فقط بل استمعوا أيضاً ..
{ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } [الآية 95]
صدق الله العظيم .. إنهم لن يتمنوا الموت أبداً ولكن لم لن يتمنوه أبداً .. ؟، إنه الخوف من الله تعالى ، الذى حرفوا كتابه ، وخالفوا تعاليمه ، وكذبوا أنبياءه ، وقتلوا الكثير منهم، على كل حال لقد فشلوا فى هذا الاختبار العملى وليس هذا فقط أيضاً بل استمعوا كذلك إلى ما يصور حرصهم الشديد على الحياة .
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أْن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [الآية 96]
نعم إنك تجد اليهودى - وصدق الله - أحرص الناس على الحياة ؛ لعلمهم بمآلهم السئ ، وعاقبتهم الخاسرة ولذلك يود أحدهم لو يعمر ألف سنة خوفاً من العذاب الذى ينتظره.من جهة، ومن جهة أخرى: لتعلقهم الشديد بالماديات وبريقها، وليس بمنجيه - ولا بمزحزحه - من هذا العذاب شيئاً ، مهما عمَّر من السنين ، والله بصير بما يعمل هؤلاء، وسيجازيهم على أعمالهم، طالت حياتهم أو قصرت، ثم يكشف القرآن خسيسة أخرى فيهم .. وهى تفريقهم بين الملائكة ، حسب أهوائهم .
يقول ربنا جل وعلا :
{ قُلْ مَن كَانَ عَدُواًّ لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَن كَانَ عَدُواًّ لِّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } [الآيتان 97 , 98]
تلقين من المولى تبارك وتعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ليعلن هذا البيان على رؤس الأشهاد .وهذا البيان .. يتضمن الوعيد ، والتهديد الشديد ، والذَّمّ لمن يعادى جبريل عليه السلام وأن من يعادى واحداً من الملائكة فقد عادى جميع الملائكة ، الذين هم رسل الله وبالتالى فهو عدو لله ، كافر به، ومن كان كذلك كان الله عدوه ، وسيجازيه بما يستحق من نكال وعذاب.
وبعد هذا الرد القوى الواضح على اليهود تنتقل الآيات .لتثبيت قلب النبى صلى الله عليه وسلم ، فى وسط هذه المعمعة من مجادلات اليهود ولبيان أنه لا يكفر به صلى الله عليه وسلم ، ولا بالآيات البينات إلا الفاسقون ، الخارجون عن أمر الله عز وجل .
نستمع سوياً .
{ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الفَاسِقُونَ } [الآية 99
قال أحد اليهود : يا محمد ما جئتنا بشئ نعرفه ، وما أنزل عليك من آية بينة .. فنتبعك، فأنزل الله - رداً عليه - هذه الآية الكريمة ومعناها : أنا أنزلنا إليك يا محمد آيات واضحات ، دالة على نبوتك ، أي وهم يعرفونها جيداً ، ويعرفون نبوتك ، ولكنهم يكفرون بها حقداً وحسداً ، وما يكفر بها إلا الفاسقون وهذا من صريح التنديد والتهديد لليهود حيث لا عهد لهم ، ولا ذمة.
وتستمر الآيات الكريمة - أيها المستمعون الكرام - فى كشف فوقهم وطبيعتهم الفاسدة فى نبذ العهود، حيث يقول ربنا جل وعلا :
{ أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [الآية 100
والآية : وهى تخبر عن طبيعتهم فى الغدر بالعهود .. !!، تكشف للمسلمين ، وللناس عامة : تفكك أهوائهم ، وعدم وفائهم ، حتى لبعضهم البعض .ونبذ كل فريق ما تعاهد عليه الآخر منهم، وما يدفعهم إلى ذلك : سوى عدم إيمانهم بالله تعالى ، يقول الإمام الحسن البصرى - وكأنه يعيش بيننا الآن - ليس فى الأرض عهد يعاهدون عليه : إلا نقضوه ، ونبذوه ، يعاهدون اليوم ، وينقضون غداً، سبحان الله ..!! ألا فليتعظ الذين يعاهدون، أيها الأحباب فى الله : استمعوا .
{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [الآية 101]
نعم إن نبذهم لم يكن للعهود فقط ، بل كان كذلك للكتاب الأخير ، الذى جاء مصدقاً لما معهم من التوراة قبل تحريفهم له، نعم نبذوا كتاب الله وكأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله ، وأن من جاء به نبى من عند الله تعالى، لا .. بل هم يعلمون ذلك جيداً ، ولكنهم يكفرون، وتركوه كذلك : لأنهم .نستمع إلى ما يرشدنا إلى المطلوب ، حيث يقول سبحانه وتعالى:
{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [الآية 102]
حقاً فضَّلت اليهود - من بعد إعراضهم عن القرآن، ومخالفتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم - واتبعت ما تقوَّلته الشياطين كذباً وزوراً على عهد سليمان عليه السلام ، وصارت ترويه، وتخبر به - من السحر، هذا وكان السحر قبل زمان سليمان صحيحاً ، لأن السحرة كانوا على عهد موسى عليه السلام ، وسليمان بعد موسى، وقد ادعى اليهود كذباً وزوراً، أن الذى كان ينزل بالسحر من عند الله على سليمان هما جبريل ، وميكائيل عليهما السلام ولذلك اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان أي من السحر، وقد رد القرآن عليهم رداً قاطعاً وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا وكذلك يقول وما أنزل على الملكين ببابل أي وما أنزل سحر على الملكين جبريل وميكائيل وكُلِّفا بتبليغه لسليمان أو غيره، ثم أخبر رب العزة لبيان الحقائق عن السحر وأهله حيث يقول، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر أي ببابل ومن هؤلاء الذين ضلوا هاروت وماروت وكانا يقولان استهزاءً لراغب تعلم السحر منهما إنما نحن فتنة فلا تكفر أي ابتعد عنا ، ولا تتعلم منا ومع ذلك يعلمان الناس ، ويتعلم الناس منهما فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ويرد الله تعالى على السحرة والفاسدين والشياطين ، ويطمئن الصالحين، حيث يقول وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله، وقد خسر هؤلاء الشياطين واليهود ومن يتبعهم ؛ حيث إنهم يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم فى دينهم ودنياهم وآخرتهم وقد خاب عملهم وضل سعيهم : حيث علموا لمن اشتراه ما له فى الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون.
أيها الكرام ماذا على اليهود لو أنهم لم يمعنوا فى الضلالة والغواية وآمنوا بالله ورسله ، واتقوا محارم الله .. ؟، يجيب رب العزة قائلاً :
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [الآية 103]
نعم .. لكان ثوابهم عند الله خير وأعظم مما اختاروه لأنفسهم، وإذا كان القرآن يقول لو كانوا يعلمون..!!، مع أنهم يعلمون ذلك ، فإن هذا من باب : التوبيخ لم على اختيارهم ؛ حيث أنزلهم القرآن - بهذا التَّغْيير - منزلة الجاهل الذى لا يعلم شيئاً.
بعد هذا - أيها الإخوة والأخوات - يتَّجه القرآن بالحديث المباشر مع المؤمنين ، فى ثمانى عشرة آية يكشف فيها لهم : بعضاً من دسائس اليهود ، وكيدهم للإسلام والمسلمين ويحذر من ألاعيبهم، وينهى عن التشبه بهم، أيها الأحباب : استمعوا معى إلى هذا النداء الحبيب الجميل .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [الآية 104]
نداء بهذا الوصف الجميل للمؤمنين : ينهاهم فيه رب العزة عن متابعة اليهود ؛ حيث كان المسلمون يقولون للنبى صلى الله عليه وسلم راعنا أي التفت إلينا ، بعد أن سمعوها من اليهود ولكن اليهود : كانوا يقصدون بها - فى لسانهم ولهجتهم - السب واللعن ، فانتهزوا الفرصة ، وصاروا يقولونها له فنزلت الآية وانتهى المسلمون عنها ؛ لئلا تقتدى بهم اليهود فى اللفظ ، وهى تقصد المعنى الفاسد، وقد أمر المولى المسلمين بمخالفتهم ، حيث قال لهم وقولوا انظرنا، كما حضهم على السمع والطاعة واسمعوا ، واعلم أن من خالف أمره : له عذاب أليم وللكافرين عذاب أليم.
يا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم ..!!، أتـدرون لمـاذا حـثنا الله على مخالفة اليهود ، حتى ولو فى هذه الشكليات ..؟، استمعوا معى إلى القارئ الكريم .. لنعرف الجواب .
{ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ } [الآية 105]
أي والله ما يتمنى هؤلاء أن ينزل عليكم يا مسلمون أي خير من ربكم أبداً وذلك لشدة عدواتهم لكم ، وغيظهم منكم ولكن هل تمنع عداوتهم ، ويحول غيظهم دون فضل الله عليكم .. ؟، أبداً أبداً.. حيث إن الله يختص برحمته من يشاء، وهو وحده - سبحانه - صاحب الفضل، لا يحجب فضله أحد ، ولا يمنعه عن جوده مخلوق والله ذو الفضل العظيم.
وبعد أن رد الله تعالى على اليهود والنصارى والمنافقين والمشركين قولهم إن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى، يرد عليهم كذلك قولهم للمسلمين بخصوص القبلة ، وتوجههم نحو الكعبة فى الصلاة ما الذى ولا هم عن قبلتهم التى كانوا عليها، حيث يقول ربنا تبارك وتعالى :
{ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ المَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الآية 142
يروى الإمام البخارى عن البراء بن عازب أنه قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدنية .فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة .!!، فأنزل الله تعالى قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام .. الآية 144
وهنا : قال السفهاء ما ولاهم أي ما الذي صرفهم عن الصلاة إلى بيت المقدس ، وهى القبلة التى كانوا عليها ..؟، ولأنه سؤال تشكيك ، منبعه الجهل منهم ، ومبعثه الحقد على المسلمين وتميزهم بهذه القبلة فقد أنزل الله تعالى ، رداً عليهم أمره التالي، قل لهم أيها المسلم إن الجهات كلها لله ، وله وحده الأمر بالتوجه إلى أية جهة شاء ، لا اعتراض عليه ، ولا معقب لحكمه ، وهو وحده - كذلك - الذى يهدى من يشاء إلى الطريق المستقيم ، وهو الإسلام.
ثم يتجه الحديث في هذا القسم الثاني من السورة إلى النبى صلى الله عليه وسلم ، وإلى الجماعة المسلمة من حوله ، ومن بعده صلى الله عليه وسلم فى بيان الأسس التى تقوم عليها حياة هذه الجماعة المستخلفة على دعوة الله فى الأرض، وفى تمييزها بطابع خاص، وبمنهج فى التصور وفى الحياة خاص، وذلك بتحديد مكانتهم فى المفاهيم ، وبين الناس.
فيقول تعالى :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [الآية 143]
أي : وكما هديناكم للإسلام وحولناكم إلى قبلة إبراهيم جعلناكم - والخطاب للمسلمين - أمة وسطاً ، أي : عدولا شهداء على أهل الأرض، ففى الدنيا : تضعون لأهلها من مبادئ دينكم الموازين والقيم ، وبحسن معاملاتكم وأخلاقكم .. تقيمون بينهم العدل ، وترفعون عنهم أغلال الظلم، وفى الآخرة : تشهدون أن رسل الله بلغت أقوامها رسالات الله .وفى هذا غاية التشريف للمسلمين، فى الدنيا وفى الآخرة .. لو يدركونه ..!!، وفوق ذلك التشريف .. تشريف آخر : وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم يكون شاهداً على حسن قيامكم بواجبات الاستخلاف فى الدنيا ، وعدالتكم فى الشهادة على الأمم يوم القيامة.
وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
ثم يعود الحديث عن القبلة مرة أخرى .فيقول عزَّ من قائل، ما شرعنا لك يا محمد التوجّه إلى بيت المقدس أولاً ، ثم حولناك عنه إلى الكعبة إلا لنعلم المطيع المسلم لنا أمره ، من العاصى الذى يرتد عن دينه، وحقيقة هذا التحول أمر عظيم ، وثقيل على النفوس ، إلا على الذين هدى الله قلوبهم ، وأيقنوا بصدق الرسول ، وما جاء به من عند الله، ثم طمأن رب العزة عباده بخصوص الصلوات التى كانت إلى جهة بيت المقدس قبلاً، فبين سبحانه أنه ما كان مضيعاً ثواب إيمانكم ، وصلاتكم ، وطاعتكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى التوجه إلى بيت المقدس ؛ حيث إن هذا التوجه ثمَّ بأمر الله تعالى، وإن الله بالناس لرؤف رحيم.
وبعد أن رد المولى سبحانه على مقولات السفهاء فى تحويل القبلة ..!!، وبعد أن بين - كذلك - الحكمة فى الصلاة عقب الهجرة إلى بيت المقدس، كان : الحديث عن هذا التحول من بيت المقدس الكعبة.
فى قوله تعالى :
{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } [الآية 144]
أي : نحن نرى ونعلم رغبتك يا محمد فى التوجه إلى الكعبة ، لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام ، وتشوقاً منك إلى إيمان المشركين، فأبشر .. بتحقيقنا لك ما ترجوه ، وترضاه وعلى الفور يحقق له ربه سبحانه ما يحب، إذ يقوله له فول وجهك إلى المسجد الحرام وهذا أمر أول بالتوجه إلى الكعبة وينعم على جميع المسلمين كذلك بشرف هذا التوجه والتوحد وحيثما كنتم فى أي مكان فولوا وجوهكم إلى المسجد الحرام، ثم يقول رب العزة للمسلمين : كاشفاً لهم ، موقف أعوانهم من ذلك هؤلاء اليهود الذين أنكروا هذا التحول فى التوجه من بيت المقدس إلى الكعبة : يعلمون بما فى كتبهم عن أنبيائهم أن الله تعالى سيوجهك هذا التوجه ، ولكنهم يتكاتمون هذه الحقائق بينهم ، حسداً وكفراً وعناداً ولذلك : يتهددهم المولى بقول وما الله بغافل عما يعملون.
{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } [الآية 145]
يعنى : أنهم لا يؤمنون بك ، ولا يتبعونك ، ولا يتركون أهواءهم .. حتى ولو أتيت لهم بكل دليل على صحة ما جئت به وكما أنهم مستمسكون بباطلهم : فإننا نعلم أنك مستمسك بالحق الذى أنت عليه ، غير متبع لأهوائهم وضلالهم، فلا تطمع فى إسلامهم ؛ لأنهم منصرفون عن الحق ، معاندون له ، حاقدون عليك ، حاسدون لك بل أكثر من هذا أن أهل الكتاب مختلفون ، لا يتفقون على رأي ، ولا يتبعون بعضهم البعض من ذلك أن اليهود لا يتبعون قبلة النصارى ، والعكس، ثم يحذر تعالى من مخالفة الحق إلى الهوى والباطل ولهذا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد أمته :إن من يتبع أهوائهم ويخالف الحق : فهو من الظالمين لأنفسهم ولغيرهم.
ثم يخبر الحق - أيها المستمعون الفضلاء - أن علماء أهل الكتاب يعرفون النبى صلى الله عليه وسلم ، وصدقه ، وصحة ما جاء به ، كما يعرف أحدهم ولده.
فيقول سبحانه :
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ
الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [الآية 146]
ولذلك .. قال عبد الله بن سلام ، وكان من علماء اليهود فأسلم وحسن إسلامه لقد عرفت محمداً صلى الله عليه وسلم حين رأيته ، كما أعرف ابنى ، ومعرفتى بمحمد صلى الله عليه وسلم أشد، ثم بين رب العزة أنهم مع هذا التحقق العلمى ، والمعرفة اليقينية، ليكتمون عن الناس ما فى كتبهم من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يعلمون أن محمداً صادق ، ويعلمون أنهم كاذبون، وبعد هذا - أيها الأكارم - يكون الكرم الإلهى بتثبيت النبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه ، ببيان أنهم على الحق الذى لا شك فيه ، مهما تشكك أو شكك الحاقدون المعاندون .
فقال : { الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ } [الآية 147]
ويحث المولى تبارك وتعالى المؤمنين : على التسابق فى الخيرات ، والجد فى عمل الصالحات ، وعدم الانشغال بغير ذلك .
فيقول :
{ وَلِكُلٍّ وَجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
ِإنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الآية 148]
أي : لليهودى وجهة هو قاصدها، وللنصرانى قبلة هو قاصدها، وأنتم يا أهل الإسلام قد هداكم الله للقبلة التى هى الكعبة ، والتى أمر الجميع بالتوجه إليها، ولذلك فاستبقوا غيركم فى الخيرات ، وبادروا إلى الطاعات ، واعلموا أن الله تعالى سوف يأت بكم جميعاً يوم القيامة ، ويفصل بين المحق والمبطل ، لا يعجزه أحد عن فعل شئ أراده، ثم يكون الأمر الثانى - أيها الإخوة والأخوات فى الله - من الله تعالى باستقبال المسجد الحرام ، و التوجه إلى الكعبة ، من جميع أقطار الأرض .
إذْ يقول سبحانه :
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ
وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [الاية 149]
أي من حيث خرجت للسفر .. فتوجه للمسجد الحرام إذا صليت ، واعلم أن هذا التوجه هو الحق من ربك، وما الله بغافل عما تعملون فراقبوا الله فى أعمالكم كلها ويأتى بعد ذلك الأمر الثالث باستقبال المسجد الحرام ، والتوجه إلى الكعبة.، ويلاحظ : أنه بنفس ألفاظ الأمر السابق ؛ حيث يقول سبحانه .
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [الآية 150]
وهذا للتأكيد ، والتشديد ؛ لأنه أول ناسخ لحكم سابق وقع فى الإسلام ، وهو التوجه إلى بيت المقدس، وقال بعض العلماء، إن الأمر الأول لمن هو مشاهد للكعبة والثانى لمن هو فى مكة، غائباً عنها لا يراها .والثالث لمن هو فى بقية البلاد بعيداً عن مكة المكرمة.
وهكذا يعلمنا الله تعالى - من خلال هذا الأمر - أن فى التزامنا بالحق سلوكاً ، وتمسكنا به عقيدة ، إبطال لحجج المعاندين ، واسقاط لدعاواهم الباطلة، كما أن فيه التوصل لتمام الإنعام الإلهى، والرجاء الصادق فى طلب الهداية من الله تعالى وإذا كان هناك - بعد ذلك - معاندون مستمرون فى جدالهم فلا تخافوا جدالهم وعنادهم ، وتمسكوا بامتثال أمرى ، واجتناب نهيى.