سورة البقرة
الجزء الأول
سورة البقرة من : قوله تعالي (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ..)
[ الربع الثالث - من : الحزب الأول ]
هذا .. ولما كان علماء اليهود - فى عهد محمد صلى الله عليه وسلم - يقولون لأقربائهم ممن أسلموا اثبتوا على دين محمد ، فإنه الحق نزل قوله تعالى:
{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [الآية 44
أى : أتأمرون غيركم بالإيمان، وتتركون أنفسكم دون إيمان، خاصة وأنكم تتلون التوراة، وفيها الوعيد على مخالفة القول للفعل . أفلا تعقلون سوء فعلكم هذا .. فترجعون إلى الحق .
{ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ } [الآية 54
واستعينوا على طاعة الله وفعل الخير، بالصبر؛ لأنه يكسر الشهوة عن المخالفة والشر، وكذلك بالصلاة لأنها تورث الخشوع، وتنفى الكبر، ومعلوم أن الصلاة ثقيلة إلا على الخاشعين لله تعالى .
{ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [الآية 64
أى : الذين يوقنون بالبعث، وأنهم ملاقوا ربهم، وأنهم إليه راجعون فيجازيهم على ما قدموا من خير أو شر، ثم يكون النداء الثانى لليهود، فى قوله تعالى :
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ } [الآية 74
أى : فضلتكم على العالمين فى زمانكم، وكان تفضيلاً موقوتاً - بزوال استخلافكم واختياركم - عندما أحسنتم وقتها، أما بعد نسيانكم نعمة ربكم وعصيانكم أوامره وقتلكم أنبيائهم، فقد حقت عليكم اللعنة، وقضى عليكم بالتشريد، ولما قالت اليهود : نحن أبناء الله وأحباؤه، وأبناء أنبيائه، وسيشفع لنا آباؤنا؛ قال لهم سبحانه .
وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [الآية 84
أى : واتقوا يا بنى إسرائيل عذاب الله وغضبه فى يوم القيامة بالإيمان بالله، والتصديق بكتابه، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ فى هذا اليوم لا تنفع - بصفة عامة - نفس غيرها أبدا، ولا يقبل - بصفة خاصة - من كافر ولا فى كافر، شفاعة ولا يؤخذ من كافر فداءً، ولو كان ملء الأرض ذهباً ولا ناصر لكافر من نفسه، أو من غيره، قريباً كان أو بعيداً.
وبعد هذا التذكير المجمل بنعم الله عليهم، فى الندائين السابقين وما فيهما، يبدو أنه لم ينفع، ولا ينفع، ولن ينفع معهم التلميح - فى إصلاح حالهم - بل لابد من التصريح ، وكذلك لم ينفع، ولا ينفع ، ولن ينفع معهم الإجمال - فى إصلاح حالهم - بل لابد من التفصيل وذلك من خلال العرض المفصَّل بعض الشئ لمواقف منهم ولهم ومعهم ، فى هذه السورة الكريمة.
وعدَّدَ المولي سبحانه خمسة عشر موقفاً تتبين من خلالها طباعهم، وعصيانهم، وعقوباتهم ، ونظرتهم للبشرية عامة ، وللمسلمين خاصة ؛ تحذيراً منهم ، وتنبيهاً على خستهم ، وعدم الانخداع بهم .
يصور تعالى الموقف الأول من هذه المواقف بقوله تعالى :
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاَءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } [الآية 94
أى : اذكروا وقت أن نجيت آباءكم من فرعون وظلمه، بتجميعكم مع رسولى موسى عليه السلام، وتخليصكم مما كنتم فيه من سوء العذاب، وتوجهكم - بتوفيقى لكم - للخروج من مصر نهائي، فهل عرف اليهود لهذه النعمة حقها ، ووفوا بعهدهم مع الله ، وآمنوا بكتابه، واتبعوا رسوله ، وانضموا لموكب المؤمنين .. ؟، كلا .. وألف كلا ومع القارئ الكريم نستمع إلى الموقف الثانى .
إذ يقول تعالى:
{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } [الآية 50
أى : واذكروا نعمتى عليكم عندما أنجيتكم أولاً من فرعون وظلمه لكم - وثانياً - من لحوقه بكم وقت خروجكم ، حيث شققنا البحر ودخلتم فيه ومشيتم إلى الشاطئ الآخر، وسط ذهول فرعون وأتباعه من هذا المنظر العجيب الغريب، وكذلك ثالثاً - من الغرق فى البحر ، وأخرجناكم منه سالمين ، ورابعاً - بغرق فرعون وآله ، وانتم تنظرون إليهم ، وإلى فعل الله تعالى فى الطغاة والظلمة ، وإنعامه بإنجاء أوليائه من الكروب والأزمات ، فهل عرف اليهود لهذه النعمة حقها ، ووفوا بعهدهم مع الله ، وآمنوا بكتابه، واتبعوا رسوله ، وانضموا لموكب المؤمنين .. ؟ كلا .. وألف كلا .. !!
وإلى كتاب الله - أيها الكرام - نستمع إلى الموقف الثالث
{ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [الآيتان 51 ، 52]
خرج موسى عليه السلام للقاء ربه ، وطلب من قومه انتظاره أربعين ليلة ، وهى المدة التى حددها الله له فى وعده إياه، فماذا فعل بنوا إسرائيل .. ؟ ، عدُّوا عليه عشرين نهاراً وعشرين ليلة ، وقالوا هذا هو المطلوب وبعد ذلك : قالوا أخلفنا موسى وعده، ثم اتخذوا العجل إلهاً يعبدونه ، وهم ظالمون فى ذلك ؛ حيث عبدوا ما لا ينبغى أن يعبد، ومع ذلك ، وبعد كل ذلك عفا الله عنهم ، لعلهم يشكرونه بعودتهم للإيمان الذى ينفعهم، هل عرف اليهود لهذه النعمة حقها ، ووفوا مع الله ، وآمنوا بكتابه ، واتبعوا رسوله ، وانضموا لموكب المؤمنين .. ؟ ، كلا .. وألف كلا .. !!
{ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [الآية 53
أى : واذكروا يا بنى إسرائيل نعمتى عليكم فى هذا الموقف - بعد كل ما سبق منكم - حيث آتينا نبينا موسى التوراة ، لتفرق لكم بين الحق والباطل، والهدى والضلالة لعلكم بهذا الكتاب وما فيه تهتدون إلى الحق والصواب، فتعودون إليه، وتلتزمون به ، وتسعدون فى الدنيا والآخرة، فهل عرف اليهود لهذه النعمة حقها، ووفوا بعهدهم مع الله، وآمنوا بكتابه، واتبعوا رسوله، وانضموا لموكب الإيمان .. ؟، كلا .. وألف كلا .. ؟
الموقف الرابع .
يقول أهل العلم :الكفارة .. طهارة والعقوبة.. تعيد صاحبها بعد ممارسته للذنب ، عضوا صالحاً نافعاً فى المجتمع من جديد، ولذلك : فإن المولى رغم إنعامه على بنى إسرائيل - كما رأينا - وعفوه عنهم، وإيتاء موسى الكتاب يهتدون به .. لم يهتدوا ، ولم ينصلحوا، ولذا : كان لابد من عقوبة .
تصورها الآيات التالية :
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [الآية54
أى : اذكروا يا بنى إسرائيل إذ قال موسى عليه السلام لقومه - بإذن من ربه - إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل إلاها وإنه لعمل فاحش يحتاج منكم إلى توبة فتوبوا إلى بارئكم، وكأنهم قالوا : كيف نتوب .. ؟، فقال لهم فاقتلوا أنفسكم أى يقتل بعضكم بعضاً قتلاً حقيقياً، وكانت هذه توبة بنى إسرائيل التى شرعها الله لهم، وقد فعلوا، وهنا : تاب الله عليهم ، وتمت النعمة حقاً : إنه هو التواب الرحيم بعباده جميعاً، فهل عرف اليهود لهذه النعمة حقها، كلا .. وألف كلا !
الموقف الخامس
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ المَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [الآيات 55, 56 , 57
عجيب .. !!، بعد كل هذا ، وبعد هذه التوبة العنيفة يطلبون من موسى عليه السلام أن يريهم الله عياناً بياناً ، لكى يؤمنوا به ..!!، خبرونى بربكم أيها الكرام، أبعد هذا جحود ونكران، أبعد فعل هؤلاء تكون ثقة فيهم لإنسان .. !!، ولهذا .. كان الجزاء العاجل ، والعقاب العادل، حيث أخذتهم الصاعقة، وهم فى كامل وعيهم ، ينظرون إلى بعضهم البعض وماتوا فى الحال ، وهم على هذا الحال.
وهنا : دعا موسى ربه أن توهب لهم الحياة مرة أخرى ، عسى أن يذكروا هذه النعمة ، ويشكروا الله عليها واستجاب الله لموسى عليه السلام، وعادوا للحياة وليس هذا فقط، بل جعل الله السحاب يظلهم من أشعة الشمس، كما أنزل عليهم المَنَّ والسلوى ؛ طعاماً لهم ، قائلاً كلوا من طيبات ما رزقناكم، فأكلوا وشربوا ، وتمتعوا بهذه النعم، فهل عرف اليهود لهذه الإنعامات المتتاليات حقها ؟ كلا وألف كلا ..!!
حيث يقول تعالى تعقيباً على عصيانهم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .حقا على الباغى تدور الدوائر، أيها الكرام .. تعالوا إلى آيات الموقف السادس .
{ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا البَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [الآيتان 58 , 59
وبعد مرور أعوام عديدة ، ونشوء أجيال جديدة منهم، أنعم الله عليهم بدخول هذه القرية وأباح لهم التمتع بخيراتها بعد التِّيه والضياع والجوع وهى نعم تستحق الشكر عليها بلا طلب من النعم لو كانوا يفقهون ..!!، فهل عرفوا : لهذه النعمة حقها ، ووفوا بعهدهم مع الله ، وآمنوا بكتابه ، واتبعوا رسوله ، وانضموا لموكب الإيمان ..؟، كلا .. وألف كلا !، بل عصوا .. حيث بدلوا أمر الله لهم قولاً وعملاً.
وهنا يصدر رب العزة .. القول الفصل ، والحكم العدل..!!، حيث أنزل على هؤلاء الظالمين ، عذاباً من ؛ السماء بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله ، ومخالفتهم أحكامه ، وعنادهم له سبحانه.
الموقف السابع و الثامن : من مواقف تذكير الله لبنى إسرائيل بنعمه عليهمـ يقول تعالى:
{ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [الآية 60
أى : واذكروا يا بنى إسرائيل نعمتى عليكم ، حينما أنزلنا على آبائكم المن والسلوى وهم فى الصحراء القاحلة ، وقلنا لهم كلوا من طيبات ما رزقناكم فأكلوا وشبعوا، ثم طلبوا من موسى الماء ليشربوا فاستسقى موسى ربه لقومه وأجاب الله طلب نبيه عليه السلام ، وأخرج لهم الماء من حجر، يضربه موسى بعصاه ولما ضربه تفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم وقيل لهم : على سبيل الإباحة والإنعام.. كلوا واشربوا من رزق الله ، ثم على سبيل النهى والتحذير.. ولا تعثوا فى الأرض مفسدين، فهل عرف اليهود لهذه النعمة حقها .. ووفوا بعهد الله ، وآمنوا بكتابه ، واتبعوا رسوله ، وانضموا لموكب الإيمان .. ؟، كلا .. وألف كلا .. !!
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بَالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } [الآية 61
عجيب ..!!، ترك اليهودُ الحديثَ فى مهام الأمور، التى خرجوا من مصر لأجلها..!! تركوا الإنعامات الإلهية عليهم ..!!، وتحدثوا مع موسى عليه السلام فى صغار الأمور ، وتوافه الحياة .. !!، لقد طلبوا من موسى : التغيير من المن والسلوى إلى ما دونها ، ممَا ألفوه أيام الذل والهوان، إنهم يريدون : البقول ، والبصل ، والثوم.
فوجئ موسى بهذا الطلب الغريب .. فقال مستنكراً أتستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير ؟ ولما وجدهم مصرين، وعن عظائم الأمور مشغولين وبتوافه الأمور شغوفين قال اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم وهكذا .. كتب عليهم العيش تحت أقدام الرغبات المادية ، وقضى عليهم - وهم يستحقون - الذل والهوان ، وانقطع الإنعام عليهم ، وبدأ العقاب الإلهى لهم، نعم وضربت عليهم الذلة والمسكنة جزاءً عادلاً ؛ لكفرهم بنعم الله السالفة عليهم ، ولما اختاروه من هبوط وإنحطاط ، بل إنهم فوق ذلك باؤا بغضب من الله ولكن .. لماذا كل هذا .. ؟، لأنهم وصلوا إلى حد لا ينفع معه إلا هذا ، وكما يقولون : "آخر الدواء الكى"، حيث إنهم كانوا يكفرون بآيات الله ونعمه وصاروا يقتلون النبيين بغير الحق أى ظلماً وعدوانا، كما أنهم عصوا أوامر الله ، وارتكبوا المناهى عياناً بياناً ، وكانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، وكذلك كانوا يعتدون بغياً وظلماً لأنفسهم، وعلى غيرهم من البلاد والعباد، ومع كل هذا فما يزالون يتبجحون، ويدعون - بالرغم من كل ذلك - أنهم شعب الله المختار ، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، وهنا يرد القرآن عليهم، مكذباً دعواهم هذه وكاشفاً عن سر هذا الغضب الإلهى عليهم ومحذراً مَن يسير على دربهم ، ومقرراً لوحدة العقيدة.
حيث يقول تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [الآية 62
والصابئون : قوم ليسوا على أى دين ، بل هم على فطرتهم التى فطرهم الله عليها، والآية تقرر : أن من آمن بالله واليوم الآخر - من هؤلاء جميعاً - وعمل صالحاً : فإن لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
وهذا - طبعاً - قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، أما بعد بعثته عليه الصلاة والسلام: فلابد من الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين . [ آل عمران 85]، وكأنى بالمولى - جل وعلا - بعد هذا العقاب الشديد : يشعرهم - بهذا التعقيب : أن باب التوبة مفتوح لمن أراد العودة إليه ، فهل فهم اليهود ذلك .. ؟، وإذا كانوا قد فهموا : فماذا فعلوا .. ؟، هل عادوا ووفوا بعهدهم مع الله ، وآمنوا بكتابه ، واتبعوا رسوله ، وانضموا لموكب المؤمنين .. ؟، كلا .. وألف كلا .. !!
الموقف العاشر
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الخَاسِرِينَ } [الآيتان 63 , 64
يقول تعالى لبنى إسرائيل ، على مرأى ومسمع من المسلمين : اذكروا يا بنى إسرائيل حينما أخذنا عليكم العهد ، وأنتم تحت تهديد الهلاك بسقوط الجبل عليكم ، وقلنا لكم خذوا ما آتيناكم بقوة أى : بجد واجتهاد وإخلاص ، فى العمل بأحكامه ، وتنفيذ تعاليمه، ولكن .. من العجيب : أنه بعد التهديد لكم ، وأخذ العهود معكم ، والأمر والتكليف بأخذ ما فى التوراة بجد ، والتوصية التى تنفعكم لعلكم تتقون، لقد.. توليتم من بعد ذلك أى: أعرضتم عن الإيمان والاتباع وخالفتم و بالرغم من هذا الإعراض ، وتلكم المخالفة : فقد أرسلت إليكم رسلى ينتشلونكم من أوحالكم وماديتكم ، وقد أثمر فى بعضكم ، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين جميعاً ، بلا استثناء .
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } [الآيتان 65 , 66
ويستمر المولى فى تأكيد استمرارهم على الكفر ، وتذكيرهم بذلك ، وتهديدهم لذلك، حينما علموا أن فريقاً منهم خالف تعاليم الله تعالى ، واعتدوا عليها ؛ حيث قاموا بصيد السمك فى يوم السبت ، وهم قد نهوا عن ذلك، فلما لم تكن عندهم قوة عزيمة يتحكمون بها فى أنفسهم ، ويحترمون بها تعاليم الله .. بل كان العناد والمكابرة والاستهانة والمخالفة محل ذلك : كان العقاب الإلهى المناسب لهم والعادل معهم، فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين أى : مطرودين من رحمة الله ، فكان المخالفون قردة، وهلكوا بعد ثلاثة أيام وكانت هذه العقوبة : عبرة وعظة مانعة من ارتكاب ما عملوا، فهل انتفع اليهود بهذه العبرة والعظة .. ؟، وهل غيروا طبعهم ، وكفوا عن تحايلهم ومكرهم .. ؟ وهل وفوا بعهدهم مع الله تعالى ، وآمنوا بكتابه ، واتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، وانضموا لموكب المؤمنين .. ؟، كلا .. وألف كلا .. !!
الموقف الحادي عشر :
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ [الآية 67
يا ألله .. !، جدال عنيف ، ونقاش عقيم .. !!، ماذا عليهم لو قالوا من أول الأمر سمعنا وأطعنا..؟، خاصة: وأن الأمر من الله .. وليس من موسى، وأيضاً : فالمأمور بذبحه "بقرة" أى مجرد بقرة ..!!، ولكنه: الجدال والعناد ، وعدم الخضوع لأوامر الله .. ولو كانت يسيرة، وتفاصيل هذا الموقف الغريب ، والذى لشدة غرابته : أخذ منه إسم هذه السورة الكريمة "سورة البقرة"، حتى لا يُنسى هذا الموقف، ولا يتناسى المسلمون هذه الطبيعة فى بنى إسرائيل، قتل قتيل فى بنى إسرائيل ، ولم يعرفوا له قاتلاً ، فسألوا نبيهم ليسأل ربه ، فيعرفوا القائل، وسأل موسى ربه ، وبلغهم أجابه ربه قائلاً إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، وكان عليهم السمع والطاعة، بالرغم من غرابة الأمر، ولكنهم قالوا لموسى أتتخذنا هزواً ؟، ولأن المقام :جد لا هزل فيه، ولأن الاستهزاء فى هذا المقام: جهل ، والاستهزاء والجهل يتنافى ومقام النبوة، قال موسى أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين المستهزئين.