سورة البقرة
(من : أول السورة الكريمة)
[ الربع الأول - من : الحزب الأول ]
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
{ الـم } [الآية 1]
هذه الحروف : هى الحروف المقطعة فى أوائل سور كثيرة، قيل فى معناها الكثير .ومن أوضح ما قيل فى ذلك : إنها لجذب اهتمام المعاندين ، ولفت أنظارهم لسماع القرآن الكريم .
< لِّلْمُتَّقِينَ هُدًى فِيهِ رَيْبَ لاَ الكِتَابُ ذَلِكَ> [الآية 2]
هذا الكتاب الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم لا شك في أنه من رب العالمين .وهو هداية للذين يتقون غضب الله وعذابه باتباع أوامره واجتناب نواهيه .
{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }[الآية 3]
أي : الذين يصدقون بما غاب عنهم من البعث والحشر والجنة والنار والملائكة إلى غير ذلك مما أخبر عنه القرآن، وفى ذات الوقت : يعبدون الله حق عبادته ، فيقيمون الصلاة ويؤدونها تامة كاملة بفروضها ، ويحافظون على مواقيتها و كذلك : ينفقون فى وجوه الخير من كل ما رزقهم المولى - مالاً أو جاهاً أو علماً .. إلى غير ذلك - طاعة لله ومرضاة له.
{ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [الآية 4]
والمتقون كذلك هم : الذين يصدقون بالقرآن وبالكتب التي نزلت على الرسل من قبلك يا محمد ، لا يفرقون بينهم ؛ لأن رسالات الله واحدة فى أصولها وهم أيضا يعلمون علم اليقين بالآخرة ، فيستعدون لها بالإيمان والعمل الصالح .
{ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ } [الآية 5]
هؤلاء المتقون السابق ذكرهم ووصفهم : سائرون على طريق الهداية إنعاماً عليهم من ربهم وهم بذاتهم الفائزون بالجنة ، والناجون من النار والصنف الثاني من الناس : هم الذين يقول عنهم المولى جل وعلا.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [الآية 6]
أي هؤلاء الذين علم الله عدم إيمانهم، لا تطمع فى هدايتهم؛ فهم لن يؤمنوا سواء خوفتهم من عذاب الله أو لم تخوفهم والسبب في ذلك أنهم:
{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [الآية 7]
أي أن قلوبهم أغلقت وختم عليها فلا يدخلها خير، وأسماعهم صُمَّتْ .. فلا تَنتَِفعْ بما تسمع من حق ، وعيونهم عَِميَتْ ، فلا تبصر صواباً، ولهذا ، لهم عذاب قوي دائم.
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [الآية 8]
وهؤلاء صنف ثالث خبيث .
{ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } [الآية 9]
أي يظهرون الإيمان والصلاح، وهم على غير ذلك حقيقة.فهم كفار فاسدون مفسدون، يخدعون الذين آمنوا، وضرر ذلك راجع إليهم لا محالة؛ حيث إنهم سيعاقبون فى الآخرة، وقد يفتضحون فى الدنيا كذلك، وهم لا يشعرون أن الله عالم بسرائرهم ومطلع على نواياهم وأفعالهم.
وهم يفعلون ذلك لأنه:
{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [الآية 10]
أي شك فى مبادئ الإسلام ونفاق بها يُمْرِض قلوبهم، فزادهم الله مرضاً بعز الإسلام ونصر أوليائه، ولأنهم يكذبون في قولهم آمنا بالله وباليوم الآخر لهم عذاب مؤلم ينتظرهم.
والعجيب أنه : أولاً:
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }َ [الآية 11]
{ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ َ}َ [الآية 12]
أي ادّعوا الإصلاح وهم فى غاية الفساد والإفساد بكفرهم، وحقيقة الأمر أنهم هم المفسدون، ولكنهم يضحكون على أنفسهم ولا يشعرون بذلك
ثانياً :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُون }
[الآية 13 ]
أي وإذا طلب منهم أن يؤمنوا مثلما آمن أتباع النبى صلى الله عليه وسلم .. قالوا : لا نفعل فعل هؤلاء الجهال، عليهم المولى بقوله : الجهال هم ولكن من فرط جهلهم لا يعلمون بذلك.
ثالثاً : وعلى الرغم من كفرهم وإفسادهم وإستكبارهم .
{ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [الآية 14]
أي إذا التقى هؤلاء المنافقون مع المؤمنين تلوَّنوا وتصنَّعوا وأظهروا الإيمان، وإذا انصرفوا إلى رؤسائهم وزملائهم فى الكفر.. قالوا : نحن لم نتغير ولم نؤمن حقيقة ، بل نقول ذلك للمؤمنين استهزاءً بهم ، وسخرية منهم .
{ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الآية 15 ]
نعم .. المستهزئ حقيقة هو الله الذى يَمُدُّ لهم فى أسباب طغيانهم ويعاملهم بقانون الاستدراج والإمهال ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين [آل عمران 178] .
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } [الآية 16]
هذا الصنف الثالث الموصوف بما سبق هم الذين أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى باختيارهم، فما ربحت صفقتهم هذه وما صاروا مهتدين بل أصبحوا خاسرين هالكين، فى النار خالدين .
وهؤلاء أيها القارىء الكريم .
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ [الآية 17]
أي حالهم فى نفاقهم مثل الذي أوقد ناراً فلما أنارت الظلام، وحققت الدفء والأمن ، فجأة أطفأ الله هذه النار، وترك أصحابها فى الظلام خائفين، تائهين عن الطريق .
{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [الآية 18]
وهذا حالهم صُمٌ عن الحق فلا يسمعونه ، خُرْسٌ عن الخير، فلا يقولونه عمي عن طريق الهدى، فلا يرونه ولذا فهم لا يتوبون من ضلالهم أبداً وأيضاً:
{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ } [الآية] 19
حالهم فى نفاقهم كأصحاب مطر ينزل من السحاب، فيه ظلمات ورعد وبرق، مما يجعلهم يضعون أنامل أصابعهم فى آذانهم لئلا يسمعون شدة صوت الرعد، مخافة الموت من ذلك، حال هؤلاء.مثل الكفار الذين لا يحبون سماع القرآن مخافة ترك دينهم الذى هو موت بالنسبة لهم مع أن الله محيط بهم علماً وقدرة، فلا يغني عنهم حذرهم من الله شيئاً، هؤلاء المنافقين الكفار:
{ يَكَادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الآية] 20
يكاد البرق لشدته وقوته ، وضعف بصائرهم ، وعدم ثباتها للإيمان يخطف أبصارهم، ومع ذلك فكلما أصاب هؤلاء المنافقين من عز الإسلام وخير أهله اطمأنوا إليه، وإن أصيب المسلمون بنكبة واختبار قاموا راجعين إلى الكفر، كمن أضاء له البرق ثم أظلم عليه ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم؛ حيث تركوا الحق بعد معرفتهإن الله على كل شيء قدير.
أيها القاريء الكريم : بعد أن وضحت الآيات الكريمة أوصاف المؤمنين والكافرين والمنافقين .. يأمر المولى كل الناس بعبادته مذكراً إياهم بعظيم نعمه ، حيث يقول جل شأنه مقرراً وحدانيته تعالى .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون } [الآية] 21
وحدوا ربكم الذى أنشأكم والذين من قبلكم من العدم ؛ لعلكم تتقون بعبادته وتوحيده غضبه وعقابه . وأيضاً هو سبحانه :
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [الآية] 22
الذى خلق لكم الأرض ممهدة كالفراش ، تنتفعون بها وعليها، وجعل السماء سقفاً محفوظاً، وأنزل من السماء ماءً تشربونه، كما أخرج بهذا الماء أنواع الثمار رزقاً وهدية منه سبحانه لكم، ولهذا - إن كنتم عقلاء - فلا تجعلوا لله شركاء وأنتم تعلمون الخالق وهم لا يخلقون، و بعد أن قرر المولى وحدانيته - كما رأينا - يقرر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيقول :
{ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [الآية] 23
أي إن كنتم أيها الضالون تشكون فى أن القرآن من عند الله فأتوا بمثل ما جاء به ، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله ، إن كنتم صادقين فى أن محمداً جاء بهذا القرآن من عند نفسه .
هذا .. ولما عجزوا بالفعل قال سبحانه
{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [الآية] 24
أي فإن عجزتم عن الإتيان بسورة من مثله، ولم تستطيعوا ذلك، ولن تستطيعوه أبداً، فقد وجب عليكم الإذعان والإيمان بأنه من كلام رب العالمين، لتتقوا بهذا الإيمان النار، التى وقودها: الكفار، والحجارة التى كانوا يعبدونها أي الأصنام، هذه النار التى هيئت للكافرين يعذبون بهان ولما ذكر سبحانه - كما رأينا - حال الأشقياء الكافرين، عقب عليه ببيان حال السعداء المؤمنين، جعلنى الله وإياكم أحبتي فى الله منهم - فقال لحبيبه صلى الله عليه وسلم :
{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [الآية] 25
وبشر الذين صدَّقوا بالله وبرسوله وبما جاء به وأخبر عنه، وعملوا الصالحات من الفروض، والنوافل، وإصلاح البلاد، وإسعاد العباد، أن لهم جنات تجرى من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، وأيضاً كلما رزقوا من ثمار تلك الجنات ، قالوا هذا مثل الذى رزقنا به من قبل في الشكل لكنه مختلف طعماً، وكذلك لهم فى هذه الجنات. أزواج من الحور العين، وغيرهن، مطهرة من الحيض وكل قذر، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان.
ورابعاً : هم فى هذه الجنات باقون لا يموتون ولا يخرجون منها أبداً، بل هم فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من النعيم الدائم .