شرح كتاب الموطأ كتاب الأقضية
( ش ) : قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ عَلَى مَعْنَى الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ بِصِفَةِ الْبَشَرِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا يَعْلَمُ الْمُحِقَّ مِنْ الْخَصْمَيْنِ مِنْ الْمُبْطِلِ وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّ فِي ذَلِكَ حَالُ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مِنْ الْغَيْبِ إلَّا مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ , وَلَمَّا كَانَتْ الدُّنْيَا دَارَ تَكْلِيفٍ وَكَانَتْ الْأَحْكَامُ تَجْرِي عَلَى ذَلِكَ أَجْرَى فِي غَالِبِ أَحْكَامِهِ فِي هَذَا الْوَجْهِ عَلَى أَحْوَالِ سَائِرِ الْحُكَّامِ , وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ فِي مَسْأَلَةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنَّهُ أَعْلَمُ بِالْكَاذِبِ مِنْهُمَا , وَقَالَ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا مِنْ تَائِبٍ . ( فَصْلٌ ) : وَقَوْلُهُ إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ تَتَنَازَعُونَ فِي الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا تَنَازُعًا يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصْمَيْنِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِهَا مِنْ صَاحِبِهِ فَيُخَاصِمُهُ فِي ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دُونَ غَيْرِهِ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم الْحَاكِمُ فِي زَمَنِهِ ; لِأَنَّهُ إمَامُ الْأُمَّةِ وَالْمُنْفَرِدُ بِالرِّئَاسَةِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا هُوَ أَوْ مَنْ قَدَّمَهُ لِذَلِكَ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قوله تعالى { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَوْلُهُ { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } وَقَوْلُهُ { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاك اللَّهُ } وَفِي هَذَا بَابَانِ أَحَدُهُمَا فِي صِفَةِ الْقَاضِي وَالثَّانِي فِي مَجْلِسِهِ وَأَدَبِهِ . ( الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي صِفَةِ الْقَاضِي ) فَأَمَّا صِفَاتُهُ فِي نَفْسِهِ فَإِحْدَاهَا أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا بَالِغًا , وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا مُفْرَدًا , وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا , وَالرَّابِعَةُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا , وَالْخَامِسَةُ أَنْ يَكُونَ حُرًّا , وَالسَّادِسَةُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا , وَالسَّابِعَةُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا . فَأَمَّا اعْتِبَارُ الذُّكُورَةِ فَحَكَى الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجُوزُ أَنْ تَلِيَ الْمَرْأَةُ الْقَضَاءَ فِي الْأَمْوَالِ دُونَ الْقِصَاصِ , وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَاضِيَةً عَلَى كُلِّ حَالٍ وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { لَا يُفْلِحُ قَوْمٌ أَسْنَدُوا أَمْرَهُمْ إلَى امْرَأَةٍ } وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهُ أَمْرٌ يَتَضَمَّنُ فَصْلَ الْقَضَاءِ فَوَجَبَ أَنْ تُنَافِيهِ الْأُنُوثَةُ كَالْإِمَامَةِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ عِنْدِي عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ قُدِّمَ لِذَلِكَ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ وَلَا بَلَدٍ مِنْ الْبِلَادِ امْرَأَةٌ كَمَا لَمْ يُقَدَّمْ لِلْإِمَامَةِ امْرَأَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .
الْبَابُ الثَّانِي فِي مَجْلِسِهِ وَأَدَبِهِ أَمَّا مَجْلِسُ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَكَرِهَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ مَالِكٌ الْقَضَاءُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْحَقِّ وَالْأَمْرِ الْقَدِيمِ ; لِأَنَّهُ يَرْضَى بِالدُّونِ مِنْ الْمَجْلِسِ وَيَصِلُ إلَيْهِ الضَّعِيفُ وَالْمَرْأَةُ وَلَا يُحْجَبُ عَنْهُ أَحَدٌ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } إلَى قَوْلِهِ { فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ } وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { أَنَّهُ قَضَى فِي الْمَسْجِدِ } . ( فَرْعٌ ) وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْلِسَ مِنْ الْمَسْجِدِ فِي رِحَابِهِ الْخَارِجَةِ قَالَ مَالِكٌ لِيَصِلَ إلَيْهِ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ وَالْحَائِضُ قَالَ وَحَيْثُمَا جَلَسَ الْقَاضِي الْمَأْمُورُ أَجْزَأَهُ قَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْضِيَ فِي مَنْزِلِهِ وَحَيْثُ أَحَبَّ , وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَقْضِيَ حَيْثُ جَمَاعَةُ النَّاسِ وَفِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ قَالَ سَحْنُونٌ قَالَ غَيْرُهُ إلَّا أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ لِكَثْرَةِ النَّاسِ حَتَّى يَشْغَلَهُ ذَلِكَ عَنْ النَّظَرِ وَالْفَهْمِ فَلْيَكُنْ لَهُ مَوْضِعٌ فِي الْمَسْجِدِ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَشْغَلُهُ وَاِتَّخَذَ سَحْنُونٌ بَيْتًا فِي الْمَسْجِدِ فَكَانَ يَقْعُدُ فِيهِ لِلنَّاسِ .
( ش ) : قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَغَيْرِهِ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الشَّاهِدِ شَهَادَةٌ لِرَجُلٍ لَا يَعْلَمُ بِهَا فَيُخْبِرُهُ بِهَا وَيُؤَدِّيهَا لَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ ضَرْبٌ هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ وَضَرْبٌ هُوَ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّينَ , فَأَمَّا مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَعَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ لَا يُسْتَدَامُ فِيهِ التَّحْرِيمُ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ زَادَ أَصْبَغُ وَالسَّرِقَةِ فَهَذَا تَرْكُ الشَّهَادَةِ بِهِ لِلسَّتْرِ جَائِزٌ , وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ { قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِهُزَالٍ هَلَّا سَتَرْته بِرِدَائِك } وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ عَلِمَ بِذَلِكَ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ يَكْتُمُوهُ الشَّهَادَةَ وَلَا يَشْهَدُوا بِهَا إلَّا فِي تَجْرِيحِهِ إنْ شَهِدَ عَلَى أَحَدٍ . ( مَسْأَلَةٌ ) : وَالْقِسْمُ الثَّانِي مَا يُسْتَدَامُ فِيهِ التَّحْرِيمُ كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْأَحْبَاسِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْهِبَاتِ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ إسْقَاطُ حَقِّهِ , وَالْمَسَاجِدُ وَالْقَنَاطِرُ وَالطُّرُقُ فَهَذَا عَلَى الشَّهَادَاتِ يَقُومُ الشَّاهِدُ فِيهَا وَيُؤَدِّيهَا مَتَى رَأَى ارْتِكَابَ الْمَحْظُورِ بِهَا وَلِلشَّاهِدِ فِي ذَلِكَ حَالَانِ حَالٌ يَعْلَمُ أَنَّ غَيْرَهُ يَقُومُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَيُشَارِكُهُ فِيهَا وَحَالٌ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فِيهَا فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ يَقُومُ بِهَا فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُبَادِرَ بِأَدَائِهَا لِيَحْصُلَ لَهُ أَجْرُ الْقِيَامِ وَلِيَقْوَى أَمْرُهَا لِكَثْرَةِ عَدَدِ مَنْ يَقُومُ بِهَا وَلِأَنَّ فِي قِيَامِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ بِهَا رَدْعًا لِأَهْلِ الْبَاطِلِ وَإِرْهَابًا عَلَيْهِمْ وَيَصِحُّ أَنْ يَتَنَاوَلَ هَذَا عُمُومُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { خَيْرُ الشُّهَدَاءِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا } وَيَكُونُ مَعْنَى الْإِتْيَانِ بِهَا هُنَا أَدَاؤُهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ . ( مَسْأَلَةٌ ) : فَإِنْ بَيَّنَ لَهُ أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ تَرَكَ الْقِيَامَ بِهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ مَنْ يَقُومُ بِهَا غَيْرُهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهَا لقوله تعالى { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } وَقَوْلِهِ { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } وَلِأَنَّ الْقِيَامَ بِالشَّهَادَةِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ فَإِذَا قَامَ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ سَقَطَ فَرْضُهَا عَنْ سَائِرِ النَّاسِ , وَإِذَا تَرَكَ الْقِيَامَ بِهَا جَمِيعُهُمْ أَثِمُوا كُلُّهُمْ إذَا كَانَ الْحَقُّ مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ . ( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ حَقُّ الْآدَمِيِّينَ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ إسْقَاطُهُ مِثْلُ أَنْ يَرَى مِلْكَ رَجُلٍ يُبَاعُ أَوْ يُوهَبُ أَوْ يُحَوَّلُ عَنْ حَالِهِ فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ جُرْحَةٌ فِي الشَّاهِدِ حِينَ رَأَى ذَلِكَ وَلَمْ يُعْلِمْ بِعِلْمِهِ فِيهِ قَالَ غَيْرُهُ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا لَا يَعْلَمُ , وَأَمَّا إنْ كَانَ حَاضِرًا فَهُوَ كَالْإِقْرَارِ . وَقَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ إنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا كَانَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ كَانَ لِلشَّاهِدِ الْقِيَامُ بِهِ , وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمَشْهُودُ لَهُ كَالْحَوَالَةِ وَالطَّلَاقِ , وَأَمَّا الْعُرُوض وَالْحَيَوَانُ وَالرِّبَاعُ فَلَا يُبْطِلُ ذَلِكَ شَهَادَتَهُ ; لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ إنْ كَانَ حَاضِرًا فَهُوَ أَضَاعَ حَقَّهُ , وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَلَيْسَ لِلشَّاهِدِ شَهَادَةٌ . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَهَذَا عِنْدِي إنَّمَا يَكُونُ جُرْحَةً فِي الشَّاهِدِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ إذَا كَتَمَهَا وَلَمْ يُعْلِمْ بِهَا بَطَلَ الْحَقُّ فَكَتَمَ ذَلِكَ حَتَّى صُولِحَ عَلَى أَقَلَّ مِمَّا يَجِبُ لَهُ أَوْ حَتَّى نَالَتْهُ بِكِتْمَانِ شَهَادَتِهِ مَعَرَّةٌ وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ مَضَرَّةٌ فَعَلِمَ ضَرُورَتَهُ إلَى شَهَادَتِهِ وَلَمْ يَقُمْ بِهَا حَتَّى دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَضَرَّةٌ بِكِتْمَانِهِ إيَّاهَا فَهِيَ جُرْحَةٌ فِي شَهَادَتِهِ , وَأَمَّا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ بِهَا ; لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ صَاحِبَ الْحَقِّ قَدْ تَرَكَهُ . ( فَصْلٌ ) : وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم الَّذِي يَأْتِي شَهَادَتُهُ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ تَأْوِيلِ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ مَا بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِيهِ وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ يَأْتِي بِهَا أَنْ يَأْتِيَ بِهَا إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ فَيُخْبِرَهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ بِذَلِكَ صَاحِبُ الْحَقِّ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو إسْحَاقَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَأْتِيهِ لِأَدَائِهَا قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا بِمَعْنَى أَنَّهُ إذَا سُئِلَ أَدَاءَهَا بَادَرَ بِذَلِكَ فَأَسْرَعَ إلَيْهِ وَلَمْ يُحْوَجْ إلَى تَكْرَارِ السُّؤَالِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يُعْطِيك قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُ وَيُجِيبُك قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ سُرْعَةَ عَطَائِهِ وَسُرْعَةَ جَوَابِهِ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا الْحَاكِمَ فَيُؤَدِّيَهَا عِنْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ إيَّاهَا ; لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَسْمَعُهَا مِنْهُ إذَا لَمْ يَقُمْ صَاحِبُ الْحَقِّ بِهَا , وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَأْتِي قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ } . وَقَدْ قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ إنَّ مَعْنَى الشَّهَادَةِ فِي الْحَدِيثِ الْيَمِينُ يُرِيدُ أَنَّهُ يَحْلِفُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْلَفَ .
( مَسْأَلَةٌ ) : وَأَمَّا إذَا تَنَاوَلَتْ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ مَا لَا يُعْدَمُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْعَدْلِ فِيهِ غَالِبًا فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا إلَّا بَعْدَ التَّزْكِيَةِ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ لَيْسَ تَعْدِيلُ الشُّهَدَاءِ إلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا ذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ لِنَفْسِهِ سُمِّيَ لَهُ ذَلِكَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُسَمَّ وَفِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَبْوَابٍ الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي عَدَدِ الْمُزَكِّينَ وَالْبَابُ الثَّانِي فِي صِفَةِ الْمُزَكَّى وَالْبَابُ الثَّالِثُ فِي مَعْنَى الْعَدَالَةِ وَمَا يَلْزَمُ الْمُزَكَّى مِنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَالْبَابُ الرَّابِعُ فِي لَفْظِ التَّزْكِيَةِ وَالْبَابُ الْخَامِسُ فِي تَكْرَارِ التَّعْدِيلِ وَمَا يَلْزَمُ مِنْهُ . ( الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي عَدَدِ الْمُزَكِّينَ ) وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ تَزْكِيَةٌ عَلَانِيَةٌ وَتَزْكِيَةٌ سِرِّيَّةٌ , فَأَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ فَفِي الْمَجْمُوعَةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ لَا يُجْزِئُ فِي التَّزْكِيَةِ أَقَلُّ مِنْ اثْنَيْنِ , وَوَجْهُ ذَلِكَ قوله تعالى { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } وَهَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي تَزْكِيَةِ شُهُودِ الزِّنَا فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ مَالِكٍ لَا يَعْدِلُ كُلُّ وَاحِدٍ إلَّا بِأَرْبَعَةٍ , وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ يَجُوزُ فِي تَعْدِيلِهِمْ مَا يَجُوزُ فِي تَعْدِيلِ غَيْرِهِمْ اثْنَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَوْ أَرْبَعَةٌ لِجَمِيعِهِمْ . ( مَسْأَلَةٌ ) : وَأَمَّا تَزْكِيَةُ السِّرِّ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْحَاكِمِ رَجُلٌ عَرَفَ دِينَهُ وَفَضْلَهُ وَمَيَّزَهُ وَتَحَرُّزَهُ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ سِوَى الْحَاكِمِ فَيَبْحَثُ عَنْ أَحْوَالِ النَّاسِ وَيَكْتَتِمُ بِذَلِكَ , فَإِذَا كَلَّفَهُ الْقَاضِي أَنْ يَتَعَرَّفَ لَهُ حَالَ شَاهِدٍ تَسَبَّبَ إلَى ذَلِكَ بِالْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ بِهِ أَحَدٌ ثُمَّ يُعْلِمُ الْحَاكِمَ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ فَهَذِهِ تَزْكِيَةُ السِّرِّ . ( فَرْعٌ ) وَكَمْ عَدَدُ الْمُزَكِّينَ فِي السِّرِّ فِي الْمَجْمُوعَةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ يَكْفِي فِي ذَلِكَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ الْعَدْلُ , وَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ لَا أُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ فِي السِّرِّ أَقَلُّ مِنْ اثْنَيْنِ . وَقَالَ سَحْنُونٌ لَا يُقْبَلُ فِي السِّرِّ إلَّا اثْنَانِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْحَاكِمِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ انْفِرَادَهُ , وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهَا شَهَادَةٌ فِي تَعْدِيلٍ كَتَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ . ( مَسْأَلَةٌ ) : وَالْأَفْضَلُ فِي التَّعْدِيلِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ , وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى بِتَعْدِيلِ الْعَلَانِيَةِ دُونَ تَعْدِيلِ السِّرِّ , وَقَدْ يُجْزِي تَعْدِيلُ السِّرِّ عَنْ تَعْدِيلِ الْعَلَانِيَةِ , وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ تَعْدِيلَ السِّرِّ لَا يَجْتَزِي فِي ذَلِكَ السَّائِلُ إلَّا بِالْخَبَرِ الْفَاشِي الْمُتَكَرِّرِ الْمُتَحَقِّقِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ لِلْمُسْتَخْبِرِ , وَلِذَلِكَ لَا يُعْذَرُ فِيهِ إلَى أَحَدٍ , وَأَمَّا تَعْدِيلُ الْعَلَانِيَةِ فَيُقْبَلُ فِي ذَلِكَ شَاهِدَانِ فَلَا يَقْوَى قُوَّةَ مَا يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ , وَلِذَلِكَ يُعْذَرُ فِيهِ إلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَإِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَهُوَ أَوْلَى لِيَسْتَوِيَ فِي تَعْدِيلِهِ السِّرُّ وَالْجَهْرُ , وَإِنْ اقْتَصَرَ فِي الرَّجُلِ الْمَشْهُورِ الْفَضْلِ بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْغَضَاضَةِ بِمُطَالَبَتِهِ بِالتَّزْكِيَةِ وَالتَّوَقُّفِ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ حَتَّى يُزَكَّى فَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ حَالَتُهُ بِالسُّؤَالِ فِي السِّرِّ عَنْ أَمْرِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يُخْبِرُ بِذَلِكَ عَنْهُ إلَّا الرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ اُضْطُرَّ فِي أَمْرِهِ إلَى تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ وَاجْتُزِئَ بِهَا فِي الَّذِي لَمْ تُشْتَهَرْ عَيْنُهُ وَفِي الْمُدَوَّنَةِ يَكْفِي فِي ذَلِكَ أَنْ يُزَكَّى فِي السِّرِّ أَوْ الْعَلَانِيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .
( الْبَابُ الثَّانِي فِي صِفَةِ الْمُزَكَّى ) رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغَ لَا يَجُوزُ تَعْدِيلُ الرَّجُلِ , وَإِنْ كَانَ عَدْلًا حَتَّى يُعْرَفَ وَجْهُ التَّعْدِيلِ وَرَوَاهُ مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ . وَقَالَ سَحْنُونٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِهِ عَنْهُ لَا تُقْبَلُ تَزْكِيَةُ الْأَبْلَهِ مِنْ النَّاسِ . وَقَالَ سَحْنُونٌ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ يَجُوزُ تَعْدِيلُهُ وَلَا يَجُوزُ فِي التَّعْدِيلِ إلَّا الْمُبَرَّزُ النَّافِذُ الْفَطِنُ الَّذِي لَا يُخْدَعُ فِي عَقْلِهِ وَلَا يُسْتَزَلُّ فِي رَأْيِهِ , وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ مَعْرِفَةَ أَحْوَالِ النَّاسِ وَمَعْرِفَةَ الْجَائِزِ مِنْهَا مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا يَخْفَى وَلَا يَعْلَمُهُ إلَّا آحَادُ النَّاسِ وَأَهْلُ الْمَيْزِ وَالْحِذْقِ مِنْهُمْ , وَأَمَّا دَفْعُ عَقْدٍ إلَى شَاهِدٍ يَشْهَدُ فِيهِ بِمَا يُشْهِدُهُ عَلَيْهِ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَذَلِكَ أَمْرٌ ظَاهِرٌ يَبْعُدُ مِنْ الْخَطَأِ وَالْمُخَادَعَةِ لِمَنْ لَهُ أَقَلُّ مَعْرِفَةٍ وَأَيْسَرُ جُزْءٍ مِنْ التَّحَرُّزِ . ( فَرْعٌ ) وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُعَدَّلَانِ غَيْرَ مَعْرُوفَيْنِ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَيُزَكَّيَانِ عِنْدَهُ إذَا كَانَ شَاهِدُ الْأَصْلِ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ , وَإِنْ كَانَ غَرِيبًا جَازَ ذَلِكَ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا , وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْغَرِيبَ قَدْ يَكُونُ مَجْهُولَ الْحَالِ فِي الْبَلَدِ فَلَا يَعْرِفُ عَدَالَتَهُ إلَّا مَنْ يَعْرِفُ الْحُكْمَ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُعْرَفَ بِهِ , وَأَمَّا الْمُسَاكِنُ بِالْبَلَدِ فَحَالُهُ فِي الْأَغْلَبِ مَعْلُومَةٌ كَحَالِ الْمُزَكَّى لَهُ فَلَا يُقْبَلُ فِي تَزْكِيَتِهِ إلَّا أَهْلُ الْعَدَالَةِ عَلَى مَا وَصَفْنَا قَبْلَ هَذَا .
( الْبَابُ الثَّالِثُ فِي مَعْنَى الْعَدَالَةِ وَمَا يَلْزَمُ الْمُزَكَّى مِنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ ) . مَنْ لَا يَعْرِفُهُ الْحَاكِمُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَطْلُبُ فِيهِ التَّزْكِيَةَ قَالَ سَحْنُونٌ يُزَكِّيهِ عِنْدَهُ مَنْ يَعْرِفُ بَاطِنَهُ كَمَا يَعْرِفُ ظَاهِرَهُ , مَنْ صَحِبَهُ الصُّحْبَةَ الطَّوِيلَةَ وَعَامَلَهُ بِالْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ قَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ قَالَ مَالِكٌ كَانَ يُقَالُ لِمَنْ مَدَحَ رَجُلًا أَصَحِبْته فِي سَفَرٍ أَخَالَطْته فِي مَالٍ قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَصْحَبُ الرَّجُلَ شَهْرًا فَلَا يَعْلَمُ مِنْهُ إلَّا خَيْرًا لَا يُزَكِّيهِ بِهَذَا وَهُوَ كَبَعْضِ مَنْ يُجَالِسُك وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِبَارٍ . وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الشَّاهِدِ لَا يَعْرِفُهُ الْقَاضِي بِعَدَالَةٍ وَلَا فَسَادٍ إلَّا أَنَّهُ مِمَّنْ يَحْضُرُ الصَّلَوَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ قَالَ سَحْنُونٌ يَعْرِفُهُ بِظَاهِرٍ جَمِيلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَسَاجِدِ وَالْجِهَادِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ وَيَطْلُبُ فِيهِ التَّزْكِيَةَ قَالَ سَحْنُونٌ لَا يُزَكِّيهِ بِذَلِكَ . ( مَسْأَلَةٌ ) : إذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّزْكِيَةَ تَفْتَقِرُ إلَى أَنْ يَعْرِفَ الْمُزَكَّى مِنْ حَالِ الشَّاهِدِ مَا ذَكَرْنَاهُ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ سَحْنُونٍ مَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَارِفَ بَعْضَ الذَّنْبِ كَالْأَمْرِ الْخَفِيفِ مِنْ الزَّلَّةِ وَالْفَلْتَةِ فَمِثْلُ هَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ عَدَالَتِهِ قَالَ مَالِكٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا تُذْكَرُ عُيُوبُهُمْ يَكُونُ عَيْبُهُ خَفِيفًا وَالْأَمْرُ كُلُّهُ حَسَنٌ وَلَا يُعْصَمُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ , وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ اللَّاعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ , وَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ إلَّا مِمَّنْ لَا يُقَارِفُ شَيْئًا مِنْ الْعُيُوبِ مَا قُبِلَتْ لِأَحَدٍ شَهَادَةٌ .
( الْبَابُ الرَّابِعُ فِي لَفْظِ التَّزْكِيَةِ وَحُكْمِهَا ) قَدْ قَالَ مَالِكٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ فِي الْمُزَكَّى يَقُولُ لَا أَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا قَالَ مَالِكٌ وَيَلْقَاهُ فِي الطَّرِيقِ وَلَا يَعْلَمُ مِنْهُ إلَّا خَيْرًا وَلَا يَجُوزُ هَذَا قَالَ سَحْنُونٌ وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَقُولَ هُوَ صَالِحٌ , وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ يُجْزِئُهُ فِي ذَلِكَ لَفْظُ الْعَدْلِ وَالرِّضَى . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ كُلُّ لَفْظٍ كُنِّيَ بِهِ عَنْ الْعَدْلِ وَالرِّضَى فَإِنَّهُ يُجْزِئُ , وَإِنَّمَا اُخْتِيرَ لَفْظُ الْعَدْلِ وَالرِّضَى لِأَنَّهُ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } , وَقَالَ عَزَّ مَنْ قَائِلٌ { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ مِنْ الْعَدْلِ وَالرِّضَى حَتَّى يَجْمَعَهُمَا . ( فَرْعٌ ) إذَا ثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَعْنَى الْعَدَالَةِ وَأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَفْظُ الْعَدَالَةِ وَالرِّضَى فَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَقُولَ أَرَاهُ عَدْلًا رِضًى وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ وَأَعْلَمُهُ عَدْلًا رِضًى جَائِزَ الشَّهَادَةِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إذَا قَالَ لَا أَعْلَمُهُ إلَّا عَدْلًا رِضًى قَالَ سَحْنُونٌ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ حَتَّى يَقُولَ إنَّهُ عَدْلٌ رِضًى وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ التَّعْدِيلَ إخْبَارٌ عَمَّا يُعْتَقَدُ فِيهِ مِنْ الصِّدْقِ لِمَا ظَهَرَ إلَيْهِ مِنْ الْأَحْوَالِ الْمَرْضِيَّةِ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقْطَعَ عَلَى مَغِيبِهِ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ التَّزْكِيَةُ وَأَنَّ الرِّضَى وَالْعَدَالَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا ظَهَرَ إلَيْهِ مِنْ أَحْوَالِهِ وَذَلِكَ مَقْطُوعٌ بِهِ .
( الْبَابُ الْخَامِسُ فِي تَكْرِيرِ التَّعْدِيلِ وَمَا يَلْزَمُ مِنْهُ ) قَدْ رَوَى فِي الْمَجْمُوعَةِ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي الرَّجُلِ يَشْهَدُ فَيُزَكَّى ثُمَّ يَشْهَدُ ثَانِيَةً قَالَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِالتَّزْكِيَةِ الْأُولَى وَلَيْسَ النَّاسُ كُلُّهُمْ سَوَاءً مِنْهُمْ الْمَشْهُورُونَ بِالْعَدَالَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْمِصُ مِنْهُ النَّاسُ قَالَ ابْنُ كِنَانَةَ أَمَّا الَّذِي لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ فَإِنَّهُ يُؤْتَنَفُ فِيهِ تَعْدِيلٌ ثَانٍ , وَأَمَّا الْمَشْهُورُ بِالْعَدَالَةِ فَالتَّعْدِيلُ الْأَوَّلُ يُجْزِئُ فِيهِ حَتَّى يُجْرَحَ بِأَمْرَيْنِ , وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ وَمُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ لَيْسَ عَلَيْهِ ائْتِنَافُ تَعْدِيلٍ إلَّا أَنْ يَغْمِزَ فِيهِ بِشَيْءٍ أَوْ يَرْتَابَ مِنْهُ وَلَا يَزِيدُهُ طُولُ ذَلِكَ إلَّا خَيْرًا وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَيْسَ بِمَشْهُورِ الْعَيْنِ وَلَا مَشْهُورِ الْعَدَالَةِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَحْوَالٌ خَفِيَتْ عَنْ الْمُعَدِّلِينَ وَرُبَّمَا يَتَعَذَّرُ تَجْرِيحُهُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِخَفَاءِ عَيْنِهِ وَقِلَّةِ الْعِلْمِ بِهِ فَيُؤْتَنَفُ فِيهِ التَّعْدِيلُ لِيُحَقَّقَ أَمْرُهُ وَيُسْتَبْرَأَ حَالُهُ , وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ بِتَعْدِيلِهِ بَاقٍ لَا يَنْقُضُهُ التَّجْرِيحُ وَالِارْتِيَابُ فَلَا يَلْزَمُ تَجْدِيدُ حُكْمٍ آخَرَ فِيهِ . ( فَرْعٌ ) فَإِذَا قُلْنَا إنَّهُ يُؤْتَنَفُ فِيهِ التَّعْدِيلُ فَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ إنْ شَهِدَ مَرَّةً ثَانِيَةً بَعْدَ زَمَانِ الْخَمْسِ سِنِينَ وَنَحْوِهَا فَلْيُسْأَلْ عَنْهُ الْمُعَدِّلُ الْأَوَّلُ فَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ عُدِّلَ مَرَّةً أُخْرَى وَإِلَّا لَمْ يَفْعَلْ . وَرَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ إنْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ الثَّانِيَةُ قَرِيبَةً مِنْ الْأَشْهُرِ وَشِبْهِهَا وَلَمْ يَطُلْ جِدًّا لَمْ يُكَلَّفْ تَزْكِيَةً , وَإِنْ كَانَ قَدْ طَالَ فَلْيَكْشِفْ عَنْهُ ثَانِيَةً طَلَبَ ذَلِكَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ وَالسَّنَةُ كَثِيرٌ . ( مَسْأَلَةٌ ) : وَمَنْ الَّذِي يُكَلَّفُ تَعْدِيلَهُ ؟ فِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يَسْأَلُهُ مَنْ يُعَدِّلُهُ فَإِنْ لَمْ يَأْتِهِ بِذَلِكَ فَلَا يَقْبَلُهُ قَالَ سَحْنُونٌ وَلَا يَطْلُبُ التَّزْكِيَةَ مِنْ الشَّاهِدِ وَذَلِكَ عَلَى الْخَصْمِ , وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يُجِيزَ الْحُكْمَ مِمَّنْ يَعْرِفُهُ وَمَنْ يُعَدِّلُهُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ رضي الله عنه وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي فَإِذَا قُلْنَا بِذَلِكَ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُكَلِّفُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ يُزَكِّيهِ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ فَإِنْ زَكَّاهُ وَإِلَّا رَدَّ شَهَادَتَهُ لقوله تعالى { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } وَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ عَدَالَتَهُ لَمْ يَرْضَهُ .
وَلِلشَّهَادَةِ حَالَانِ : حَالُ تَحَمُّلٍ وَحَالُ أَدَاءً وَإِنِّي أُفْرِدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَابًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . ( الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ ) أَمَّا تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : تَحَمُّلُ نَقْلِهَا مِنْ الْأَصْلِ , وَالثَّانِي تَحَمُّلُ نَقْلِهَا عَنْ الشُّهُودِ , وَالثَّالِثُ تَحَمُّلُ نَقْلِ حُكْمِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ , فَأَمَّا تَحَمُّلُ نَقْلِهَا مِنْ الْأَصْلِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْمَعَ لَفْظَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالشَّهَادَةِ لَهُ أَوْ إقْرَارَهُ , وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مَا تَقَيَّدَ فِي كِتَابٍ , فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَسْمَعَ مَا يَشْهَدُ بِهِ فَهُوَ إذَا وَعَاهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَقُمْ بِالشَّهَادَةِ غَيْرُهُ وَتَجُوزُ عَلَى هَذَا شَهَادَةُ الْأَعْمَى خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ لَا تَجُوزُ مَا تَحَمَّلَ حَالَ الْعَمَى وَلِلشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ لَهُ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِي يَدَيْهِ إلَى أَنْ تُؤَدَّى الشَّهَادَةُ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِمَا , وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ مَعْرِفَةُ الْمُقِرِّ وَالْمُقَرِّ لَهُ جَازَ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ بَيْنَهُمَا مَعَ الْعَدَالَةِ كَالْمُبْصِرِ وَالْأَعْمَى يَعْرِفُ ذَلِكَ بِمَعْرِفَةِ الصَّوْتِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا احْتَجَّ بِهِ سَحْنُونٌ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ بِمَعْرِفَةِ صَوْتِهَا وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى حَقِّهِ بِمَعْرِفَةِ صَوْتِ مُبَايِعِهِ وَالْمُقْتَرِضِ مِنْهُ قَالَ الْمُغِيرَةُ وَابْنُ نَافِعٍ وَسَحْنُونٌ سَوَاءٌ وُلِدَ أَعْمَى أَوْ عَمِيَ بَعْدَ ذَلِكَ . ( مَسْأَلَةٌ ) : وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعِ جَمِيعَ مَا شَهِدَ بِهِ فَإِنْ كَانَ نَسِيَ مِنْهُ مَا لَا يُخِلُّ بِمَا حَفِظَ فَلْيَشْهَدْ بِمَا حَفِظَ وَتَيَقَّنَهُ دُونَ مَا يَشُكُّ فِيهِ , وَإِنْ كَانَ نَسِيَ مَا يَخَافُ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا لِمَا حَفِظَ وَمُغَيِّرًا لِحُكْمِهِ فَلَا يَشْهَدُ بِهِ وَهَذَا حُكْمُ الْإِقْرَارِ فِيمَنْ سَمِعَ رَجُلًا يُحَدِّثُ غَيْرَهُ بِمَا فِيهِ إقْرَارٌ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَمُرُّ بِالرَّجُلَيْنِ يَتَكَلَّمَانِ وَلَمْ يُشْهِدَاهُ فَيَدْعُوهُ أَحَدُهُمَا إلَى الشَّهَادَةِ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إلَّا أَنْ يَسْتَوْعِبَ كَلَامَهُمَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ رضي الله عنه وَذَلِكَ عِنْدِي عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَخَافَةَ الِاسْتِغْفَالِ وَالتَّحَيُّلِ عَلَى الْمُقِرِّ , وَالثَّانِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ إذَا اسْتَوْعَبَ الْكَلَامَ وَلَمْ يَفُتْهُ مَا يَخَافُ أَنْ يُخِلَّ بِالْمَعْنَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ تَفْسِيرًا لِقَوْلِ مَالِكٍ وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ قَوْلُ مَالِكٍ الْأَوَّلُ لَا يَشْهَدُ , وَفِي الْمَوَّازِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ مَا يُقَوِّي هَذَا التَّأْوِيلَ فِيمَنْ سَمِعَ رَجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ وَلَمْ يَشْهَدْ السَّامِعُ لَا يَشْهَدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَاذِفًا . وَقَالَ أَشْهَبُ هَذِهِ رِوَايَةٌ فِيهَا وَهْمٌ وَلْيَشْهَدْ بِمَا سَمِعَ مِنْ إقْرَارِهِ , وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُقِرُّ فَلْيُعْلِمْهُ . وَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَقْوَالُ أَصْحَابِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَعْنَى وَيَرْجِعُ إلَيْهِ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي شَهَادَةِ الْمُخْتَفِي عَلَى الْإِقْرَارِ إذَا كَانَ الْمُقِرُّ مِمَّنْ يَخَافُ أَنْ يُخْدَعَ أَوْ يُسْتَضْعَفَ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ وَيَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَقَرَّ إلَّا لِمَا يُذْكَرُ مِنْ ذَلِكَ , وَأَمَّا مَنْ لَا يُخَافُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَهُوَ فِي الْخَلْوَةِ يُقِرُّ وَيَجْحَدُ عِنْدَ الْبَيِّنَةِ فَعَسَى أَنْ يَلْزَمَهُ ذَلِكَ , وَرَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ أَرَى ذَلِكَ ثَابِتًا وَسُئِلَ سَحْنُونٌ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَنَّ الشَّعْبِيَّ وَشُرَيْحًا كَانَا لَا يُجِيزَانِ ذَلِكَ فَظَاهِرُ مَا جَاوَبَ بِهِ مِنْ الرِّوَايَةِ الْأَخْذُ بِهَا فِي الْمَنْعِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الرَّجُلَيْنِ يَتَحَاسَبَانِ بِحَضْرَةِ رَجُلَيْنِ وَيَشْتَرِطَانِ عَلَيْهِمَا أَنْ لَا يَشْهَدَا بِمَا يُقِرَّانِ بِهِ فَيُقِرُّ أَحَدُهُمَا فَيَطْلُبُهُمَا الْآخَرُ بِالشَّهَادَةِ فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ يَمْتَنِعَانِ مِنْ الشَّهَادَةِ وَلَا يُعَجِّلَا فَإِنْ اصْطَلَحَ الْمُتَدَاعِيَانِ وَإِلَّا فَلْيُؤَدِّيَا الشَّهَادَةَ , وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ نَافِعٍ لَا أَرَى بِامْتِنَاعِهِمَا مِنْ الشَّهَادَةِ بَيْنَهُمَا بَأْسًا . وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إسْحَاقَ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْحَاكِمِ بِمَا سَمِعَ مِنْ الْخُصُومِ , وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ مَنْ تَوَسَّطَ بَيْنَ اثْنَيْنِ . ( مَسْأَلَةٌ ) : إذَا سَأَلَ الْمُسْتَفْتِي فَقِيهًا عَنْ أَمْرٍ يُنَوَّى فِيهِ , وَلَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَوْ أَسَرَّ بِهِ بَيِّنَةً لَمْ يُنَوَّ وَفُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَأَتَتْهُ الزَّوْجَةُ تَسْأَلُهُ عَنْ الشَّهَادَةِ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ زَادَ ابْنُ الْمَوَّازِ , وَلَوْ شَهِدَ لَمْ يَنْفَعْهَا ; لِأَنَّ إقْرَارَهُ عَلَى غَيْرِ الْإِشْهَادِ وَمَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ حَدٍّ مِمَّا لَا رُجُوعَ لَهُ عَنْهُ ثُمَّ أَنْكَرَ فَلْيَشْهَدْ بِهِ عَلَيْهِ . وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إسْحَاقَ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْفَقِيهِ بِمَا يُسْأَلُ عَنْهُ . ( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا إذَا شَهِدَ عَلَى مَا تَقَيَّدَ فِي كِتَابٍ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَخْتُومٍ أَوْ مَخْتُومًا فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَخْتُومٍ فَعِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْرَأَ مَا تَقَيَّدَتْ بِهِ الشَّهَادَةُ فِي آخِرِ الْعَقْدِ إنْ كَانَ يَقْرَأُ أَوْ يُقْرَأُ لَهُ إنْ كَانَ أُمِّيًّا أَوْ أَعْمَى لِيُعْلَمَ بِذَلِكَ مُوَافَقَةَ تَقْيِيدِ الشَّهَادَةِ لِمَا شَهِدَ بِهِ , وَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ مَخْتُومًا فَفِي الْمَعُونَةِ لِلْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَنْ دَفَعَ إلَى شُهُودٍ كِتَابًا مَطْوِيًّا , وَقَالَ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ هَلْ يَصِحُّ تَحَمُّلُهُمْ لِلشَّهَادَةِ أَمْ لَا , وَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ إذَا كَتَبَ كِتَابًا إلَى حَاكِمٍ وَخَتَمَهُ وَأَشْهَدَ الشُّهُودَ بِأَنَّهُ كِتَابُهُ وَلَمْ يَقْرَأْ عَلَيْهِمْ فَعَنْهُ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ جَائِزَةٌ وَالْأُخْرَى أَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ بِهِ إلَّا أَنْ يَقْرَؤُهُ وَقْتَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ . فَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّهُ أَشْهَدَهُمْ عَلَى إقْرَارِهِ بِمَا فِي كِتَابٍ عَرَفُوهُ فَصَحَّ تَحَمُّلُهُمْ لِلشَّهَادَةِ وَأَصْلُهُ إذَا قَرَأَهُ عَلَيْهِمْ وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي أَبُو إسْحَاقَ لِذَلِكَ بِأَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَفَعَ كِتَابًا إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ لَيْلَتَيْنِ ثُمَّ يَقْرَأَ الْكِتَابَ فَيَتَّبِعَ مَا فِيهِ } قَالَ وَوَجْهُ الْمَنْعِ قوله تعالى { وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا } , وَإِذَا لَمْ يَقْرَءُوا الْكِتَابَ لَمْ يَعْلَمُوا مَا يَشْهَدُونَ بِهِ فَلَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ