شهر شعبان ...فضائل وعظات
سيعيش المسلمون في هذه الأيام في ظلال شهر كريم هو شهر شعبان، وشهر شعبان يقع بين شهرين عظيمين، هما: رجب ورمضان، فقد ودعنا شهر رجب الذي شهد حادثة الإسراء والمعراج من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
*
نعيش الآن أياماً مباركة في ظلال شهر شعبان الذي شهد تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وهذا يدل دلالة واضحة على الرابطة القوية بين المسجدين، كما أن شهر شعبان هو الشهر الذي يستعدّ فيه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها لاستقبال شهر رمضان شهر الخير والبركة، بكثرة الصيام والطاعات والقربات.
فضل الصيام في شهر شعبان
لشهر شعبان مكانة عظيمة في الإسلام، لذلك فقد كان رسولنا – صلى الله عليه وسلم – يُكثر من الصيام فيه كما رُوي عَنْ أَبي سَلَمَةَ قَالَ: )سَأَلْتُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- عَنْ صِيَامِ رَسُولِ ا -صَلَّى ا عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَتْ: كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ أَفْطَرَ، وَلَمْ أَرَهُ صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أكَْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، .) كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلا قَلِيلا. ، وفي حديث آخر عَنْ أَبي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ ا عَنْهَا – قالت: )لم يكنْ رَسُولُ ا -صَلَّى ا عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشَّهرِ مِنَ السنةِ أكثَرَ صِياماً خُذُوا مِنَ « : منهُ في شَعبانَ، وكان يقولُ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ ا لن يَمَلَّ أَحَبُّ العَمَلِ « : وكَانَ يقُولُ ،» حَتَّى تَمَلُّوا )» إلى الله ما دَاوَمَ عليه صَاحِبُهُ وَإِنْ قَلَّ).
وشهر شعبان شهر كريم تُرفع فيه الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى، لذلك كان رسولنا – صلى الله عليه وسلم- يصوم معظم أيام هذا الشهر، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه أسامة بن زيد– رضي الله عنهما- قال: )قلتُ: يا رسول الله، لم أركَ تصوم
في شهرٍ من الشهور كما تصوم في شعبان، فقال – عليه الصلاة والسلام –:ذلك شهر يَغْفُلُ الناس عنه بين رجب « ورمضان، فيه تُرْفع الأعمال إلى الله،
وأحبُّ أن يُرفع عملي إلى الله تعالى وأنا صائم
تحويل القبلة :
إن شهر شعبان حافل بالذكريات الإسلامية العظيمة، ومن أهم هذه الذكريات ذكرى تحويل القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام، بعد أن ظلَّ المسلمون يستقبلون بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً منذ هاجر المصطفى – صلى الله عليه وسلم – من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، لما ورد عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: )صَلَّيْنا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- نحوَ بيتِ المقدس ستةَ عشرَ شَهْراً أو سبعةَ عشر شهراً ثم صُرِفْنَا نحْوَ الكعبة() 4(، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يُحِبَّ أن يُحَوّل نحو الكعبة، فنزلت: }قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء{) 5(، فَصُرفإلى الكعبة.
ومن المعلوم أن النبي – صلى الله عليه وسلم - كان قبل ذلك يُصَلِّي إلى بيت المقدس، كما كان الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- قبله يُصلّون، وكان وهو في مكة يُحاول أن يجمع بين الأمرين، فكان يُصلّي بين الركنين: بين الحجر الأسود والركن اليماني، فتكون الكعبة أمامه ويكون أيضاً بيت المقدس أمامه، ولكنه تعذَّر عليه ذلك حينما هاجر إلى المدينة المنورة، فكان يتمنى من قلبه أن يُوَجَّهَ إلى قبلة أبيه
إبراهيم–عليه الصلاة والسلام-، لأنه- صلى الله عليه وسلم- )كان يُحِبُّ أن يُحوَّل نحو الكعبة، وينظر إلى السماء دون أن ينطق لسانه بشيء، حتى هيّأ الله له ما أحبَّ ورضي، ونزل في ذلك قوله تعالى: }قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي .) السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا...{() 6
إن تحويل القبلة من قبلة المسلمين الأولى ببيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، يشتمل على درس مهم، وهو الصلة الوثيقة بين المسجدين الشريفين، حيث ربط الله سبحانه وتعالى بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في الآية الأولى التي افْتُتِحَتْ بها سورة الإسراء كما
في قوله تعالى: }سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسج الحرام إِلَى المسجد الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ{ 7(، وذلك حتى لا يفصل المسلم بين ( هذين المسجدين، فالمسجد الأقصى ثاني مسجد وضع لعبادة الله في الأرض، كما ورد عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري – رضي الله عنه- قال: قلتُ يا رسول الله، أيُّ مسجد وضع في المسجد الحرام، قلتُ:: الأرض أولاً؟ قال ثم أيّ؟ قال: المسجد الأقصى، قلتُ: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً.
مغفرةُ الله لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن
في هذه الليلة المباركة، يعفو الله عز وجل عن عباده وَيُنزل رحمة سابغة، ولا يُحْرَم من عفو الله ورحمته إلا الأشرار والمجرمون والذين هم على الخطايا مُصِرَّون، كما جاء في الحديث أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم - قال: )يطَّلِعُ اللهُ إلى جميعِ خلقِه ليلةَ النِّصفِ من
شعبانَ، فيَغفِرُ لجميع خلْقِه، إلاللمشرك أو مُشاحِنٍ() 9( ، وقال – صلى الله عليه وسلم - : )أتاني جبرائيل عليه السلام فقال: هذه ليلة النصف من شعبان، ولله فيها عتقاء من النار بعَدَدِ شُعُورِ غَنَم كلب، ولا ينظُرُ الله فيها إلى مُشْرك، ولا إلى مشاحن، ولا إلى قاطع
رحم، ولا إلى مُسْبلٍ، ولا إلى عاقٍّ لوالديه، . ) ولا إلى مُدْمِنِ خمر 10 فليلة النصف من شعبان، مناسبة مباركة كريمة لجمع الشمل وصلة الرحم بين المسلمين، وتقوية أواصر الأخوة بين المؤمنين، وإزالة الأحقاد والبغضاء، والعودة إلى المودة والصفاء، فالتآخي
عماد الدين وأساسه، والبغضاء تحلق الدين وتضعف المسلمين، وتفسد الحياة وتقضي على الدنيا والآخرة.
الوحدة..الوحدة..يا أمة الإسلام
لقد ربط الله بين المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد الأقصى بالقدس في حادثة الإسراء والمعراج، حيث جعلهما شقيقين، ثم كان تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ، كما وجمع الرسول – صلى الله عليه وسلم – بين المسجد الحرام والمسجد
النبوي والمسجد الأقصى، حيث إنها هي المساجد الثلاثة التي لا تُشَدُّ الرحال إلا إليها، وهذا درس كبير في الوحدة، فالله أمرنا بأن نكون متحدين متحابين، ومن المعلوم أن المسلمين يتعلمون من وحدة القبلة وحدة الأمة الإسلامية، فأمتنا العربية والإسلامية اليوم أحوج ما تكون
إلى الوحدة ورصّ الصفوف في ظل الظروف القاسية التي يَمرُّ بها العالم اليوم، هذا العالم الذي لا مكان فيه للضعفاء ولا للمتفرقين.
إن ديننا الإسلامي يُرْشدنا إلى أهمية الاتحاد واجتماع الكلمة، ليرقى بذلك أن يكون أصلاً من أصول الدين، وأمراً ربانيا تًضمّنه القرآن الكريم، وتأكيداً نبوياً فيما لا يُحصى من الأحاديث الصحيحة الصريحة، وتطبيقاً عملياً لحياة الصحابة والتابعين، بينما نجد واقع المسلمين يُنبئ عن قدرٍ كبير من الاختلاف والتباعد، وكما قال الشاعر:
بحثتُ عن الأديان في الأرض كلّها وَجُبْتُ بلاد الله غرباً ومشرقاً فلمْ أرَ كالإسلام أدعى لألفةٍ ولا مثل أهليه أشدّ تفرقا
عجيب أمر المسلمين! إلههم واحد، ورسولهم واحد، وقرآنهم واحد، وقبلتهم واحدة، ومع ذلك فهم دول ممزقة، وشعوب متفرقة، مع أن الإسلام يدعوهم إلى الوحدة في صراحة واضحة لا تحتاج إلى تفسير ولا إلى تأويل، يقول الله تعالى:}وَاعْتَصِمُواْ بحَبْلِ ا جَمِيعًا وَلاَ
. ) تَفَرَّقُواْ{ ) 11 ما أحوج أمتنا العربية والإسلامية إلى الترفع على الأحقاد، وطيّ صفحات الماضي المؤلمة، وأن نفتح جميعاً صفحة
جديدة من المحبة والإخاء، ففي ظل التعاليم القرآنية والسنة النبوية الشريفة عاشت البشرية حياة الخير والسعادة. وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
يوسف جمعة سلامة