الإلحاد
الإلحاد الذي ينتشر اليوم في أوربا، شرقها وغربها، ويتبجح بإنكار وجود الله وينفي أن الله سبحانه هو الخالق الرازق المحي المميت وأنه خالق الكون ومدبره، ظاهرة لا مثيل لها في تاريخ البشرية من قبل، من حيث سعة انتشارها، وتأثيرها في حياة الناس وأفكارهم وتصوراتهم، وما أحدثته من تحلل وفساد خلقى.
حقاً، لقد وجدت نماذج من الإلحاد في التاريخ القديم؛ فقد وجد الدهريون، الذين ينكرون البعث، وينسبون الموت للدهر بدلاً من الله. أولئك الذين أشار الله في القرآن إليهم: ((وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون))(الجاثية: 24).
وهؤلاء هم البذرة الأولى للذين يقولون اليوم ((بالطبيعة)) بدلاً من الله، فيرتكبون ذات الجهالة التي وقعت فيها جاهليات قديمة من قبل.
ووجدت نماذج من التحلل الخلقى الذريع إلى جانب الإلحاد، كما حدث في المزدكية التي انتشرت في بلاد فارس فترة من فترات التاريخ وأباحت شيوعية المال والنساء، وأنشأت لونا من الفوضى الخلقية لا مثيل له فيما سبق من القرون. وأولئك هم البذرة الأولى للشيوعية المعاصرة التي قدمها ماركس ولينين( ).
ولكن هؤلاء وأمثالهم كانوا قلة في حياة البشرية من قبل .
ذلك أن الانحراف الأكبر الذي يقع في عقائد الناس في جاهليتهم هو الشرك كما أسلفنا وليس الإلحاد، لأن الفطرة – إن ضلت – تظل تؤمن بوجود الله ولكنها تشرك معه آلهة أخرى. أما الإلحاد- بمعنى إنكار وجود الله أصلاً – فهو شذوذ نادر حتى في الفطرة المنحرفة، سببه انطماس غير عادى في البصيرة، يجعل الإنسان يعيش بكامله في عالم الحس، فيؤله المحسوس وحده، وينفي وجود إله ((لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير))(الأنعام 1.3)).
لذلك كان الإلحاد – كما قلنا – أمراً نادراً في تاريخ البشرية .
أما البشرية المعاصرة فقد انتشر فيها الإلحاد بصورة غير مسبوقة من قبل . ولابد من أن تكون هناك أسباب غير هي التي أدت الي انتشاره بهذه الصورة البالغة القبح.
إن السبب الرئيسي في إلحاد اليوم هو ذات السبب في كل إلحاد حدث في التاريخ : انطماس غير عادي في البصيرة ، يؤله المحسوس وحده وينفي وجود الله.
ولكن الذي نبحث هنا عن أسبابه ودوافعه هو انتشار هذه الظاهرة علي نطاق واسع غير معهود من قبل، بحيث يصبح هذا العدد الهائل من البشر مطموس البصيرة بهذه الصورة غير العادية، فيؤمن بالمحسوس وحده وينكر وجود الله.
وما دامت الفطرة – حتى في انحرافها – لا تصل إلى هذه الصورة إلا في حالات شاذة نادرة، فلابد أن هناك أشياء غير عادية في حياة الناس في أوربا – التي ينتشر فيها الإلحاد – قد مسخت طبائع النفوس هناك، فلم تقف في انحرافها عند درجة الشرك. إنما تجاوزتها إلى الإلحاد الذي يجمع في حقيقته بين الشرك والكفر: الشرك بمنح خصائص الألوهية لغير الله، والكفر بإنكار وجود الله .
ولابد لنا من لمحة سريعة عن حياة أوربا تبين لنا أسباب هذه الظاهرة الخطيرة غير العادية في حياة البشرية .
أسباب الإلحاد :
أولاً : دور الكنيسة الأوربية في إفساد النصرانية المنزلة من عند الله :
بعث الله سيدنا عيسى بالحق، وأنزل عليه الإنجيل يبين للناس حقيقة التوحيد ويدلهم على الشرائع التي ينبغى أن تحكم حياتهم بأمر من الله : ((وقال المسيح يا بنى إسرائيل اعبدوا الله ربى وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار )) ( المائدة : 72).
((ومصدقاً لما بين يدى من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون))(آل عمران : 5.).
ولكن المجامع التي أنشأتها الكنيسة الأوربية لتقرير أمور العقيدة قد أفسدت هذا الدين الربانى المنزل من عند الله وشوهت صورته تشويهاً بالغاً من ناحيتين :
الأولى : ناحية الاعتقاد، بأن جعلت الله ثلاثة بدلاً من واحد، وجعلت المسيح ابن مريم إلهاً بدلاً من كونه بشراً ورسولاً كبقية الرسل والأنبياء. وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى : ((لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم)) (المائدة : 72).
((لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد)) (المائدة : 73)) .
الثانية : ناحية الحكم بما أنزل الله في الإنجيل. فقد أبطلوا الحكم بشريعة الله المنزل إلا فيما يسمى ((الأحوال الشخصية))، أى الزواج والطلاق، أما بقية أمور الحياة فقد بقى القانون الرومانى يحكمها بدلاً من شريعة الله. وفي ذلك يقول الله: ((وقفينا على آثارهم( ) بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة( ) وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين(46) وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل فأولئك هم الفاسقون))( ) (المائدة: 46،47).
وبذلك أفسدت الكنيسة الدين النصرانى المنزل من عند الله إفساداً كاملاً وأصبحت أوربا واقعة في الشرك منذ أوائل اعتناقها المسيحية! وكان هذا الشرك مقدمة لمزيد من الفساد في الحياة الأوربية.
ثانياً : موقف الكنيسة من العلم :
في العصور الوسطى كانت أوربا تعيش في ظلام الجهل والخرافة. ومن هنا ينطبق عليهم وصف ((العصور الوسطى المظلمة)) كما يعبرون عن حياتهم في تلك الفترة من تاريخهم.
ثم وقعت بينهم وبين المسلمين سلسلة من الحروب هي المعروفة في التاريخ باسم الحروب الصليبية، التي استغرقت قرابة قرنين من الزمان، من القرن الحادى عشر الميلادى إلى القرن الثالث عشر.
وفي تلك الحروب احتك الصليبيون بالمسلمين وعرفوا عن كثب مزايا الحياة الإسلامية وفضائلها، وما تحويه من حضارة وعلم، فتأثروا بها تأثراً بالغاً، وحاولوا إقامة حياتهم في أوربا على ضوء بعض المبادئ والقيم التي وجدوها عند المسلمين. كما جاءهم التأثير من ناحية أخرى باحتكاكهم بالمسلمين في الأندلس والشمال الإفريقى وصقلية الإسلامية وجنوب إيطاليا الإسلامى حيث كانت المدارس والجامعات الإسلامية مزدهرة يفد إليها طلاب العلم من كل مكان في الأرض. ويؤمها الأوربيون لنيل العلم على يد الأساتذة المسلمين، ويتعلمون العربية لتلقى العلم وترجمة الكتب الإسلامية العلمية إلى لغاتهم الأوربية.
ومن هذه التأثيرين بدأت أوربا تنهض وتخرج من عصورها الوسطى المظلمة.
ولكن الكنيسة وقفت ضد الحركة العلمية التي بدأت تنشأ في أوربا.. ويرجع ذلك إلى سببين في آن واحد:
السبب الأول : خوفها على مكانتها في نفوس الجماهير. فقد كانت تلك المكانة قائمة على مجموعة من الخرافات التي تبثها الكنيسة في عقول الناس، وتقول لهم : إن هناك في الدين أسراراً لا يعرفها إلا رجال الدين وإن على الناس أن يخضعوا لرجال الدين خضوعاً أعمى، ولا يسألوا عن تلك الأسرار، وإنما يطلبون البركة من رجال الدين بطاعتهم إياهم في كل مأ يأمرون به. وهم – أى رجال الدين – كفيلون بتقريبهم إلى الله بهذه الطاعة ليغفر لهم ذنوبهم.. وكانت الكنيسة تخشى إذا انتشر العلم أن تتفتح أعين الناس على تلك الخرافة وأمثالها فتضيع مكانة رجال الدين في نفوسهم، ولا يعود للكنيسة ذلك السلطان المقدس عند الجماهير!
والسبب الثانى: أن ذلك العلم في الحقيقة هو علم المسلمين. وكان الأوربيون الذين يبتعثون إلى المدارس والجامعات الإسلامية ينقلون معهم علوم المسلمين، وينقلون معها في الوقت ذاته تأثراً واضحاً بالإسلام والقيم والمبادئ الإسلامية، فخشيت الكنيسة أن ينتشر الإسلام في أوربا مع الحركة العلمية المنقولة أصلاً عن الجامعات الإسلامية والعلماء المسلمين؛ لذلك قامت تحارب العلماء الأوربيين الذين تأثروا بعلوم المسلمين محاربة وحشية. وتهددهم بالتقتيل والتعذيب والتحريق في النار حتى الموت إذا لم يتراجعوا عن الأفكار العلمية التي نقلوها عن علماء الإسلام! وكان هذا بداية انحراف خطير بالغ الأثر في الحياة الأوربية هو فصل العلم عن الدين، وإيجاد عداوة بين الدين والعلم، وبين المتعلمين والدين! واستمر هذا الانحراف يتزايد على مر العصور في أوربا حتى أصبح الدين في حس المتعلم الأوربى ممثلاً للخرافة، وأصبحت ((النظرة العلمية)) في تصوره هي إبعاد مفاهيم الدين كلها عن مجال البحث العلمى، وعدم الإشارة إلى الله أصلاً في أية حقيقة من حقائق العلم تتصل بالكون أو الحياة أو الإنسان( ).
ثالثاً : طغيان الكنيسة ورجال الدين:
لم تكتف الكنيسة بما أفسدته من دين الله المنزل، ولا بموقفها المعادى للعلم وحقائقه النظرية والتجريبية، بل أضافت إلى ذلك طغياناً بشعاً على أرواح الناس وعقولهم وأموالهم وأجسادهم :
1- ففرضت عليهم احتكار الوساطة بين الناس وبين الله. فلا يملك الإنسان أن يتصل بربه إلا عن طريق الكاهن.. ولا تقبل منه التوبة والاستغفار من ذنوبه إلا بالجلوس أمام الكاهن على ((كرسى الاعتراف)) وإعلان الكاهن له بقبول توبته ..
2- وفرضت عليهم أفكاراً معينة عن شكل الأرض وعمر الإنسان على سطح الأرض، تخالف ما وصلت إليه حقائق العلم الثابتة، وقالت لهم: إن هذه أفكار مقدسة لأنها منزلة من عند الله، ومن خالفها فهو كافر ملحد .
3- وفرضت عليهم العشور، أى أن يقدموا عشر مالهم هبة خالصة للكنيسة. لا لله ولا للمساكين، إنما ليعيش بها رجال الدين في بذخ لا يحلم به الأباطرة في عصر من العصور .
4- وفرضت عليهم السخرة، أى أن يعلموا في فلاحة الأرض المملوكة للكنيسة يوماً واحداً من كل أسبوع سخرة بغير أجر .
5- وفرضت عليهم الخضوع المذل لرجال الدين، فيتعين على الناس أن ينحنوا عند مرور الكاهن بهم حتى تلتصق جباههم بالأرض، ولو كانت الأرض مملوءة بالوحل والطين.
وأضيف إلى ذلك كله أنه حين قامت الجماهير في أوربا في العصور الحديثة تطالب بحقوقها المسلوبة، وتطلب رفع الظلم الواقع عليها من رجال الإقطاع، وقفت الكنيسة إلى جانب الظالمين من رجال الإقطاع وهددت الجماهير المستعبدة بغضب الله عليها إن ثارت على ظلم الأسياد !
رابعاً : الرهبانية :
((ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم)) (الحديد : 27)
وقد تقبلها الله منهم – وإن كان لم يكتبها عليهم – لأنهم ابتغوا بها رضوان الله في مبدأ أمرهم. ولكنهم لم يرعوها حق رعايتها، بل تحولت الأديرة التي يسكن فيها الرهبان والراهبات إلى مباءات من الفساد الخلقى أبشع بكثير مما يجرى في داخل المجتمع على أيدى الفساق المنحلين!
وفي ذلك يقول الله : ((ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون)) (الحديد : 27) .
وقد ظلت السيرة السيئة التي يتناقلها الناس عن الحياة الخاصة لرجال الدين تزداد سواءاً حتى صارت سخرية الساخرين، وصارت كذلك منفرة للناس من الدين .
خامساً : مهزلة صكوك الغفران :
وذلك حين زعم البابا أنه يمضن المغفرة للناس عند الله ويملك أن يدخلهم الجنة مقابل دفع مبالغ معينة من المال! وكتب صكوكاً – اشتهرت باسم صكوك الغفران- يقول فيها : أنا البابا .. فلان .. أمنح المغفرة لفلان من الناس عن كل ذنوبه ما تقدم منها وما تأخر، وأنه أصبح بريئاً من الذنوب كيوم ولدته أمه، وأنه يدخل الجنة يوم القيامة ويكون مباركاً عند الرب! ثم راح يبيع هذه الصكوك للناس بالمال! فصاروا يرتكبون من الذنوب والجرائم ما يرتكبون، ثم يشترون صكوك الغفران من الباب متوهمين أنهم يدخلون بها الجنة وينالون مغفرة حقيقية من عند اله!
واتسعت الدائرة حين وكل البابا من دونه من رجال الدين في بيع الصكوك للناس حتى صارت المسألة مهزلة ضخمة لا تؤدى في النهاية إلى توقير الدين ولا رجاله المزعومين.
لذلك كله ظل نفور الناس من الدين يتزايد على مر العصور في أوربا حتى انسلخوا منه جملة في العصر الحديث!
سادساً : تشويه الكنيسة لصورة الإسلام في نفوس الأوربيين :
قلنا من قبل : إن الكنيسة قامت تحارب الحركة العلمية في أوربا لأنها كانت تحمل معها تأثيراً إسلامياً واضحاً، لأن المبتعثين الأوربيين إلى بلاد الإسلام كانوا يرجعون متأثرين بالروح الإسلامية، وبما شاهدوه في بلاد المسلمين من تقدم علمى وحضارى. ونضيف هنا أن الكنيسة حين فزعت من هذا التأثير الإسلامى الذي يحمله المبتعثون معهم، وخشيت من انتشار الإسلام في أوربا مع الحركة العلمية المستمدة من علوم المسلمين، قامت بحملة واسعة لمحاربة هذا التأثير، وجندت كتابها ليكتبوا ضد الإسلام، ويشوهوا صورته النقية، ويتهجموا على رسول الله ويتقولوا عليه الأقاويل، ويتهموا المسلمين بكل كبيرة في الأرض، ليحولوا بين أوربا وبين اعتناق الإسلام!
وكان لهذه الحملة المزدوجة ضد العلوم المستمدة من المسلمين وضد المسلمين والإسلام آثار بعيدة المدى في الحياة الأوربية .
فأما الحملة ضد الإسلام فقد أثرت بالفعل في نفوس الأوربيين فصدتهم عن اعتناق الإسلام، وساعد على هذا الصد أن الهزيمة التي منى بها الصليبيون في حروبهم مع المسلمين كانت ما تزال تحز في نفوسهم. وأما الحركة العلمية والحضارية المستمدة من الأصول الإسلامية فقد مضت في سبيلها؛ لأن الناس أحبوا ثمار العلم بعد أن أفاقوا من جهالتهم. وأحبوا ثمار الحضارة حين رأوها متاحة بين أيديهم. ولكن هذه الحركة العلمية والحضارية قامت مع الأسف على غير أساس من الدين، بل معادية للدين في الحقيقة. ذلك أن مواقف الكنيسة السابقة كلها جعلت المثقف الأوربى المتحضر ينفر من الدين الذي تقدمه له الكنيسة وهو المسيحية، كما أن حملة الكنيسة ضد الإسلام جعلت هذا المثقف لا يقبل الدخول في الإسلام حتى وإن كان يستمد أصول حضارته من المسلمين!
ومن هنا نشأ الموقف الشاذ الذي تقدمه له الكنيسة وهو المسيحية، كما أن حملة الكنيسة ضد الإسلام جعلت هذا المثقف لا يقبل الدخول في الإسلام حتى وإن كان يستمد أصول حضارته من المسلمين!
ومن هنا نشأ الموقف الشاذ الذي أدى إلى الأزمة المعاصرة التي تعيش فيها البشرية في الوقت الحاضر، وهو قيام حركة علمية ضخمة، وتقدم مادى واسع بعيد عن الدين ومعاد له، وبعيد عن كل القيم الروحية والأخلاقية التي لا تستقيم بدونها حياة الإنسان على الأرض. وأصبح الأوربى كلما زادت علومه وتقدمه المادى يغريه ذلك بمزيد من البعد عن الدين !
سابعاً : دور اليهود في إفساد الحياة الأوربية :
في هذا الموقف الشاذ الذي هيأته الكنيسة الأوربية بمواقفها المختلفة ظهر اليهود ليدفعوا عجلة الفساد دفعاً إلى الأمام.. فهم كما وصفهم الله فقال تعالى: ((ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين))(المائدة : 64).
لقد رأى اليهود الفرصة سانحة لينقضوا على النصرانية عدوهم القديم، فأطبقوا عليهم من كل جانب، يبثون الأفكار الهدامة، ويفسدون الأخلاق وينشرون كل رذيلة باسم التقدم والحضارة تارة وباسم الحرية الشخصية تارة أخرى حتى استطاعوا بالفعل أن يفسدوا الحياة الأوربية بكل أنواع الفساد التي لا تخطر على البال .
فمن ناحية قام ماركس –وهو يهودى- بنشر نظرياته عن الجنس، التي يدعو فيها إلى التحلل من الدين والأخلاق والتقاليد بحجة أنها تسبب الكبت والعقد النفسية والعصبية!
ومن ناحية ثالثة أشرف اليهود على الحركة الصناعية الرأسمالية في أوربا ليشغلوا فيها أموالهم بالربا، وعن هذا الطريق سيطروا على كل نواحى الحياة الأوربية فأفسدوا فيها مفاسد جمة .
1- فقد أغروا المرأة بالخروج إلى العمل في المصانع، فلما كثر عدد النساء العاملات أغروهن بالتبرج والزينة والأزياء الفاضحة لتفسد أخلاقهن ويفسد الشبان معهن ومن وراء ذلك تكسب بيوت الأزياء وبيوت الزينة مكاسب مالية هائلة وترجع كلها في النهاية إلى اليهود.
2- أطلقوا شعارات ((الحرية والإخاء والمساواة)) وتحت شعار الحرية نشر الإلحاد والفساد الخلقى باعتبارهما من أبواب الحرية الشخصية للإنسان! فمن شاء أن يلحد فليلحد .. ومن شاء أن يتبذل ويتحلل فليفعل ذلك، وليس لأحد أن يتدخل في ((حريته الشخصية)) !
3- حطموا كيان الأسرة بإغراء المرأة بالخروج للعمل وجعلها تنظر إلى البيت والأمومة ورعاية النشء على أنها قيود سخيفة تحد من انطلاقها وحريتها ...
4- أنشئوا أجيالاً من الأطفال بلا أسر لأن الأم مشغولة بالعمل في الخارج ولا تجد فرصة حقيقية لتربية الأطفال، فنشأت ظاهرة جنوح الأحداث التي تشكوا منها كثير من المجتمعات الغربية .
تلك بعض المفاسد التي أحدثها اليهود في الحياة الغربية، وما تزال عجلة الفساد دائرة تأتى كل يوم بجديد .
ثامناً : مسئولية المسلمين عن ذلك كله :
وأخيراً لابد لنا أن نذكر الأمة الإسلامية مسئولة مسئولية كبيرة عن هذا الفساد الحادث اليوم في الأرض. إن هذه الأمة لم يخرجها الله ويجعلها خير أمة في التاريخ لتعيش في حدود نفسها فحسب، بل لتكون قائدة ورائدة لكل البشرية :
قال تعالى : ((كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله))(آل عمران:11.).
وقال تعالى : ((وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً))(البقرة : 143).
وقد ظل الخير يعم البشرية كلها حين كانت هذه الأمة قائمة برسالتها تنشر النور والهدى في آفاق الأرض، تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتؤمن بالله وتدعوا إلى الإيمان.
فلما تخلت هذه الأمة عن رسالتها في القرون الأخيرة، وأصابها الضعف والوهن تبعاً لذلك، فقد تولت قيادة البشرية أمة جاهلية لا تؤمن بالله ورسله، ولا تحكم شريعته في الحياة، ومن ثم أتيحت الفرصة لشياطين الجن والإنس أن يعيثوا فساداً في الأرض، وينشروا الكفر بدلاً من الإيمان .
ولن تصلح الأرض مرة أخرى حتى يعود المسلمون عودة صادقة إلى دينهم الحق وعندئذ يتحقق وعد الله لهم بالاستخلاف والتمكين والتأمين كما تحقق مرة من قبل : ((وعد الله الذين آمنوا وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدوننى لا يشركون بى شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)) (النور:55).
هذه اللمحة من تاريخ أوربا تعيننا على تفهم الجو الحالى السائد في الغرب والذي انتشر فيه الإلحاد والفساد الخلقى .
لقد نشأ من العوامل الثلاثة سالفة الذكر – وهي موقف الكنيسة ودور اليهود في الإفساد وتخلى المسلمين عن رسالتهم – وجود جو معاد للدين في أوربا، صالح لكل جراثيم الفساد أن تنتشر فيه .
ولعل أخطر هذه الجراثيم جميعاً هو الإلحاد والفساد الخلقى؛ لأن الإنسان إذا بعد عن الله، وعن تطبيق منهج الله في الأرض، فلا حدود للهاوية التي يمكن أن ينحدر إليها. والواقع الأوربى الحاضر خير برهان على هذه الحقيقة المؤلمة، فإن الانفصال القائم بين الدين والعلم،وبين الدين والحياة، قد أدى إلى فساد الفطرة البشرية ذاتها، فضلاً عما أصابها من أمراض القلق والجنون والانتحار والأمراض النفسية والعصبية وانتشار الجريمة والإدمان على الخمر والمخدرات حتى بين الشباب المراهقين.
وذلك كله راجع إلى البعد عن الله، والبعد عن الدين .