المبين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


يتناول مواضيع دينبة
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 مصطلح الحديث

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin



المساهمات : 629
تاريخ التسجيل : 03/03/2013

مصطلح الحديث Empty
مُساهمةموضوع: مصطلح الحديث   مصطلح الحديث Icon_minitimeالأربعاء أكتوبر 30, 2013 8:24 pm

مصطلح الحديث
لفضيلة الدكتور/ مازن السرساوي

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم على آل إبراهيم في العالمين؛ إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وأحسن الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
فمرحبًا بكم أيها الإخوة المشاهدون الكرام، في أول جلسة من جلسات شرح مصطلح الحديث، ونحن اليوم في ثوب الأكاديمية الإسلامية الجديد، ونسأل الله -عز وجل- أن ينفع بذلك عموم المسلمين.
والأكاديميةُ في ثوبها الجديد أكثر مرونةً وأكثر تفتحًا، وأكثر مراعاة لواقع العصر في نقل مثل هذه العلوم إلى عمومِ المسلمين.
فسيكون هناك أدوات كثيرة، لم يعتد المتابعون على رُؤيتها فيما مضى من برامج هذه الأكاديمة المباركة.
وسنسير في هذا المنهج المقرر، الذي سيكون مرْجعه الأهم الذي سنسير فيه إن شاء الله -عز وجل- كتب "نُزهة النَّظر شرح نخبة الفِكَر" لخاتمة الحفاظ المحققين وإمام أهل الحديث في عصره وبعد عصر، الإمام الكبير الحافظ شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني -رحمه الله-.
وسندمج بين هذا الشرح الأكاديمي الذي سنمشي فيه جَنبًا إلى جنب مع وسائلَ تعليمية حديثة، وتفصيل على شاشاتٍ سترونها إن شاء الله -عز وجل- تُقرب هذا الكلام الأكاديمي، وتجعله أقرب ما يكون إلى تصور كثير من الطلبة، لا سيما من لم يألفْ هذا الفنَّ إلفًا طويلاً.
وأرحبُ في مطلع هذ الحلقة بإخواني الكرام، والشيوخ الأفاضل، الذين سوف نتفاعل معًا في هذه الحلقة الأولى من حَلقات مصطلح الحديث، فأهلاً ومرحبًا بكم جميعًا.
هناك مقدمات تُسرد بين يديْ كلِّ فنٍّ ينبغي على طالب العلم أن يُحيط بها علمًا؛ حتى يتصور هذا الفن الذي يسير فيه.
فعلم مصطلح الحديث، معروف أن هذا اللفظ (مصطلح الحديث) لفظ مُركب من كلمتين، وحتى نتصور معنى هذه اللفظة، لا بد أن نعرف معنى كل جزء من أجزائها.
فالمصطلح أو الاصطلاح: هو اتفاقُ طائفةٍ ما على شيءٍ ما.
لو اجتمعنا نحن الآن مثلاً في هذه الجلسة واصطلحْنا أن نسمي هذا الفن الذي سندرسه بعلوم الحديث، صار هذا اللفظ (علوم الحديث) مُصطلحًا بيننا على هذا الفن.
لو اتفق جماعة خارج هذا المجلس على تسميته بعلم مصطلح الحديث يصير هذا أيضا مصطلحًا لهم.
لو اتفق جماعة آخرون على تسميته باسم آخر بـ (علم الحديث دِرايةً)؛ فلا بأس بذلك.
فالمصطلح أو الاصطلاح: هذا اتفاق طائفة ما على معنىً ما، وتواضعهم عليه.
وأهل العلم دائمًا ما يقولون: "لا مشاحة في الاصطلاح"؛ أي ما دام الاصطلاح واضحًا متفقًا عليه بين أهله، أو بين طائفة من أهل العلم؛ فلا ينبغي المشاحة والمضايقة في هذا، ما دام المصطلح معروفًا قد بينه أهله قبل أن يستخدموه.
لكن الإشكال أن يصطلح بعض الناس لأنفسهم اصطلاحًا، ولا يبينونه لأحد، فيصير هذا طِلَّسَمًا، وشيئًا أشبه ما يكون بالسرّ.
أن يتفق بعض الناس على "كود" معين أو كلمة معينة، وعند النظر لا نعرف معناها عندهم ولا عند الناس.
لكن ما دام الشخص واضع الاصطلاح، ومن وضع الاصطلاح ومن اتفق عليه قد بيّنه للناس، وبيّنه للناظرِ في كلامه؛ فلا مُشاحة إذا خالفه أحد في ذلك، أو اصطلح اصطلاحًا آخرَ ما دام الجميع يُؤدي الغرض، وما دام الجميع واضحًا عند واضعه وعند الناظر في كلامه.
هذا "المصطلح"، وهذا يصح وضعه في جميع الفنون، فهذا لفظ "دوَّار".
تجد اصطلاح علوم الفقه، والمصطلح عند أهل الحديث يختلف عنه عند مصطلحات كل فنٍّ من الفنون الأخرى الشرعية، وغيرها.
اللفظة نفسها التي يصطلح عليه أهل الفن من الفنون، قد تختلف من فنٍّ لآخرَ. فالذي ينظر في لفظ "الخبر" ومصطلح الخبر عن أهل الحديث تُساوي كلمة "الحديث"، على الرأي الراجح من أقوال أهل العلم. أن الخبر هو الحديث، وهو ما أضيف إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ أو صفةٍ، أو أُضيف إلى الصحابة أو إلى التابعين. هذا هو الخبر عند أهل الحديث، الذي اصطلحوا هم على ذلك.
لو قلت: عمرو ....، فيقول: "عمرو .." ماذا؟ فأقول: عمرو ناجح. فيأتي لفظ "ناجح" يسمى عند أهل اللغة وأهل النحو بِـ "الخبر". وتجد معناه عند أهل اللغة مختلفًا عن معناه عند أهل الاصطلاحِ.
لو انتقلنا لعلوم البلاغة؛ ترى الخبر عندهم شيئًا ثالثًا؛ فالخبر عندهم هو: ما يحتمل الصدق والكذب لذاته. فشيء ثالث غير معنى الخبر الذي اصطلح عليه أهل الحديث، والذي اصطلح عليه أهل النحو، تراه عند أهل البلاغة اصطلاحًا ثالثًا. ولا مشاحة في هذا، مادام كل فنٍ كما قلت يصطلحون على شيء واضح، يتفق عليه أولهم وآخرهم ويعرفه روّاد هذا الفن، فلا بأس في ذلك.
فلما قلنا: مصطلح، ستأتي إلينا ألفاظ كثيرة داخل هذا الفن هي عبارة عن مصطلحات؛ أي إن أهل الفن، أهل علم الحديث المحدثين ونقاد الأثر، اتفقوا على أن يُراد بها هذا المعنى. فلا ينبغي أن يضايقوا في ذلك.
والحديث: ذكرنا معناه منذ قليل. والحديث كذلك عند أهل اللغة له معنى، وعند أهل الحديث له معنًى آخرُ. فلفظة "الحديث" هذه عند أهل اللغة معناها ضد "القديم. يُقال: هذا شيء حديث، وهذا شيء قديم. لكن عند أهل الحديث: هو قول النبي -صلى الله عليه وسلم- أو ما أُضيف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير أو صفة. وما أضيف إلى الصحابة وإلى التابعين كذلك.
فخرجنا من كل هذا بأن "مصطلح الحديث" عبارة عن: اصطلاحاتٍ وقواعدَ وأصولٍ وضوابطَ، سيستخدمها أهلُ الحديث في هذا الفن في "فن الحديث" ليس في فنٍّ آخرَ.
فلا ينبغي أبدا أن يعترضَ علينا أحدٌ عندما نذكر مصطلحًا عند أهل الحديث، بأن أهل أصول الفقه يقولون كلامًا آخرَ؛ فهذا غير وارد عندنا إطلاقًا؛ لأننا نتكلم الآن في علم الحديث، وأهل كل علمٍ أدرى به، ولكل فنٍّ رجاله.
وسنرى في هذا الكتاب وفي هذا الشرحِ أن هناك بعض العلماء من الفقهاء أحيانًا يعترضون على مصطلحاتٍ عند المحدِّثين، فيردُّ المحدثون هذا الاعتراض بأنه غير واردٍ؛ لأن هذا وإن كان يَصلح عند الفقهاء والأصوليين لكنه لا يصلح هنا عند المحدثين، لأنه غير جارٍ على قواعدهم ولا مصطلحاتهم. فأهل كل فن أدرى بفنهم.
فهذا الفن "علم مصطلح الحديث"، بعد كونه من أهم الفنون لطالب الحديث؛ لأن الطالب الذي يطلب هذا العلم لا يستطيع أن يَتَبَصَّرَ به ويسير فيه على هُدَى إلا بدراسته هذا الفنَّ؛ لأن هذا الفن هو الإرشادات الكاملة للحديثِ، يعرف به الحديث المقبول والحديث المردود، وأحوال الرواة، وطرائق النقل والتحمُّل، والصفات الواردة عن الأحاديث وعن الراواة. لا يستطيع أن يسير طالب الحديث في علم الحديث، إلا وقد أحاط بطرف صالح من هذا الفن. لكن لا تقف فائدة علم الحديث أو مصطلح الحديث عند هذا الحدّ؛. فهو ليس مفيدًا لعلماء الحديث فحسب؛ بل هو لا يستغني عنه طالب علم شرعي أصلًا، بل لا يَستغني عنه عاقل. فإن شئت فسمه (المنطق الشرعي)، كيف؟!
علم اللغة مثلاً .. -وسآتي بمثل لعلْم من بعيد، ولن آتي بعلْم من العلوم المماسة لعلم الحديث أو العلوم الشرعية-، علم اللغة علم لا يمكن فهم الكتاب ولا السنة إلا به، فتقوم اللغة في أصلها على السماع. فأصل اللغة الواردة إلينا من العرب إنما بُنيت على السَّماع؛ أن بعضَ مَن دوّن اللغة سمع العرب تقول: كذا، ولم يسمعها تقول: كذا، فيصير هذا من اللغة وهذا ليس من اللغة.
فعندما نَستخدم علم مصطلح الحديثِ الذي يُعدّ رأسَ علومِ النقل، وهو جامعٌ لها، ويعلمنا كيف التوثُّق من صحة النقل، وثبوته عن ناقله، وما وراء ذلك؛ نستطيع أن نحكم على ألفاظٍ كثيرة يزعم البعض دخولها في اللغة بأنها غيرُ داخلة فيها؛ لأن مخرجها من كذابٍ عند أهل اللغةِ، وليس عند أهل الحديث.
فعندما يأتي واحد معروف من اللغويين، أو نَقَلَة اللغة بأنه رجل غير متثبّت كذاب، ويقول: سمعت العربَ تقول: كذا في كذا. عندما نستخدم منهج النقد الذي أَصَّله المحدثون في ذلك؛ فإننا نردّ هذا القول. عندما نجد أهل اللغة أنفسهم يقولون: إن فلانًا هذا الرَّاوية من رواة اللغة كذاب، أو لا يُوثق بنقله، فنكون على شكٍّ من كل ما جاء به.
وعندما ينسب أحد قولًا لشاعر أو كما قلت مثلًا لحكيم؛ يجري نفس الكلام عليه.
وأقرب من ذلك علم التفسير؛ فعلم التفسير.. فالروايات المنقولة هذه إما تفسيرٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم- لهذه الآيات، أو لمن بعده من الصحابة والتابعين. وكل هذا إن لم يأت إسناد صحيح يحكمُ أهل العلم بصحته وصحة نسبة القول إلى قائله؛ فهو هدر، كأنه لم يرِد.
فلو أن كذابًا نقل عن ابن عباس قولاً في تفسير آية؛ فهل سنعبأ بهذا؟! فكأن ابن عباس ما قال شيئًا قطُّ، وإنما عرفنا ذلك بعلم المصطلح، بعلم الحديث، علم النقل عند المحدثين.
وكذلك الفقه؛ فإن الفقه ينبني على الأصول المعرفة في الكتاب والسنة. فرجعنا مرة أخرى للمصطلح والحديث. فلا يستغني فن من فنون الإسلام ولا غيرها عن معرفة طرف من هذا العلم.
ولذلك، بعض المستشرقين عندما درس هذا العلم ورأى ما فيه من أمور تَبْهَر العقول، وتذهل العقلاء، من التثبت والتدقيق الذي ليس له في الدنيا نظير.. قال: "ليفخرِ المسلمون بعلم حديثهم ما شاؤوا". وكان منصفًا. قال: هؤلاء الناس عندهم علم ليس عند أي أحد، ولا يستطيع أحد في العالم أن يعمل مثل هذا العلم.
ولو عرضنا ما جاء من تراث العالم على قواعد هؤلاء، سيسقط كله، ولن يبقى إلا تراث المسلمين الذي تثبتوا في نقله، وهو جارٍ على قواعدهم في التثبُّت.
وباقي العلوم وباقي تراث العالم كله كثير منه سيسقط؛ لأنه لا يوافق دقائق النقل التي يضعها المحدثون.
وكما قلنا؛ سيكون تناولنا لهذا الفن من خلال كتاب الحافظ الكبير أبي الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، وهو خاتمة الحفاظ المحققين. وكتابه هذا "نزهة النظر شرح نخبة الفكر" كتاب رُتّب على ترتيب بديع، لم يُسبق إليه الحافظ، ونحن الآن سنذكر مراتبَ التصنيف في هذا الفن، كما يذكرها الحافظ، سنقدم لها أيضًا بمقدمة ونُبيّن لماذا قدمنا بها، سنرى أن العلماء قبل الحافظ ابن حجر، من عند أول من صنف، أي من تكلم في المصطلح هو الشافعي، وحتى الذين ألفوا كتبًا مستقلة في المصطح؛ مثل الرَّامهرمزي، ومن بعدِه الخطيب والقاضي عياض وابن الصلاح، ومن جاء بعد ابن الصلاح إلى الحافظ ابن حجر، كلهم كانوا يمشون على نهجٍ ما. فجاء الحافظ ابن حجر ووضع نهجًا آخرَ، ورتب علوم الحديث ترتيبًا بديعًا، فجعلها كلها شبكة واحدة، وربطها ربطًا عقليًّا منطقيًّا متسلسلاً، يدلُّ على تكامل صورة هذا العلم في عقْله، وأنه ليس مجرد تعليقات على كل باب، بل إن العلم كله بأطرافة كلها مجموعة في عقل هذا الرجل جمعًا تناسقيًّا بديعًا، ولهذا سنعرض الآن هذا الأمرَ، وإن شاء الله تعالى ربما في حلقة قادمة سنُبين هذه المخططات التي وَضَعَها الحافظ. هو قد كتبها وكتبناها نحن على هيئة رسم بياني، ومن يركّز فيها يجد أن الحديث كله مجموعٌ في صفحة واحدة. فمن فهِم هذه التركيبة؛ أحاط علمًا بعلوم الحديث أو بتناسقها وتعاضدها وتسلسل بعضها على إثر بعض وفهم هذا الفن من أوله إلى آخره في وهلة، ويبقى التحرير في دقائق المسائل.
فالحافظ بدأ وعمل النخبة بهذا الوضع المبتكر وكانت مُلخصة، أربع أوخمس ورقات يحفظها الحافظ. ثم سأله بعض أهل الفضل أن يشرحَها، فشرحها وصاحب البيت أدرى بما فيه. فشرحها في هذا الكتاب الماتع "نزهة النظر شرح نخبة الفكر"، إذن؛ النخبة للحافظ، وَضَعَها كمتن مختصر يُحفظ. ثم شرحها بنفسه، فقطعت جهيزةُ قولَ كل خطيبٍ، فجاءت بما لم يمكن ولا يمكن أن ينازعها فيه أحد. فصاحب البيت أدرى بما فيه، وأهل مكة أدرى بشعابها.
(قال الإمام الحافظ العلامة الرُّحْلة، شيخ الإسلام، علم الأعلام، شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد العسقلاني، الشهير بابن حجرٍ، الشافعي) -وهو كان قاضي القضاة الشافعية- (فسح الله في مدتِه، وأعاد على المسلمين من بركته).
فالناسخ الذي نسخ هذه النسخة؛ نسخها في حياة الحافظ ابن حجر، وكتبها أمام الحافظ؛ لأنه يدعو له يقول: فسح الله في مدته؛ أي أطال الله في عمره. وهذا الدعاء لا يُدعى به إلا لمن كان حيًّا يُرزق.
(.. وأعاد على المسلمين من بركته. قال الحافظ: الحمد لله الذي لم يزل عالمًا قديرًا، حيًّا قيومًا سميعًا بصيرًا، وأشهد أن إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأكبّره تكبيرًا. وصلى الله على سيدنا محمدٍ الذي أرسله إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا، وعلى آله محمد وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا).
جرت عادة العلماء في ذلك الزمان وقبله بأزمان بعده بأزمان إلى وقت قريب، إلى تعهُّد السجع في مقدمات الكتب، وكانوا يرون هذا شيئًا حسنًا، لا سيما إذا كان سجعًا رقيقًا غير مُتكلفٍ كما تسمعون، لأن فقرات السجع بعيدة نوعا ما، ليس كسجع الكهّان كلمة مقابل كلمة أو كلمتين مقابل كلمتين.. لا، هذا سجع خفيف لطيف على القلب غيرُ متكلف، واضح أنه سجية، فمثل هذا كانوا يستحسنونه، وبعضهم كان يُبالغ جدًّا فيجعله سجعًا كسجع الكهان وهذا مُستكره، ولهذا مع نمو هذا الفن بعد قرون من ذلك، وبداية النهضة الأدبية في عصورٍ بعد ذلك، بدأ كثير من الكتاب يتخلصون من هذا الصنف، من السجع في مقدمات كتبهم، ولم يعودوا يصنعونه إلا قليلاً.
لكن من يقرأ كتب هذه الحقبة -القرن السابع، والثامن، والتاسع، والعاشر، والحادي عشر، والثاني عشر-؛ يجد هذا الأمر كثيرًا جدًّا، لا يكاد يخرج منه كتاب، لا سيما في مقدمات الكتب، وبعضهم كان يبالغ فيصنع كتابه كله على هذا النمط، وطبعًا هذا يحتاج لثروة لغوية عالية جدًّا.
قال: (أما بعدُ: فإن التصانيف في اصطلاح أهل الحديث، قد كثرت للأئمة في القديم والحديث).لا زال يكتب سجعًا، لكنه -كما ترون- سجع غير متكلف؛ لأنه بالفعل قد لا يجد عبارة غير هذه؛ لأنها عبارة تطرأ على اللسان أول ما يكتب.
{طالب: وهذا أيضًا فيه جناسٌ بين لفظة الحديث الأولى والثانية}.
جيد، فلفظة الحديث الأولى مقصودٌ بها حديث النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في قوله: (فإن التصانيف في اصطلاح أهل الحديث)؛ فالحديث هنا هو حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، العلم الذي نتكلم فيه.
(قد كثرت للأئمة في القديم والحديث): الحديث هنا بمعنى المعاصر عكس القديم. وهذا -بعد كونه سجعًا- ضَربٌ من ضروب الجناس، وهو جناس تام؛ لأنه جاءت الكلمة بكامل حروفها، ولم تختلف عن سابقتها شيئًا.
قال: (فمن أول من صنف في ذلك...).
بدأ الحافظ يُؤرخ للمصنفاتِ في علم الحديث، وهذا مهم جدًّا. أن طالب العلم ينبغي أن يراجع أمثال هذه الكتب، وينظر فيها ويتعهدها؛ حتى تنشأ بينه وبين علوم السلف علاقة قويمة وطيدة، فلا يعتمد عادة على ما يُلقى إليه فقط، فربما يهم المتكلمُ أو يذهل الشارحُ أو يُسيء فهم عبارة؛ جلّ من لا يُخطئ. والحافظ الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى- في ضبطه لاسم راوٍ من الرواة، نقل كلام الإمام الخطيب البغدادي وابن ماكولا وعبد الغني بن سعيد الأسدي الدارقطني، وكلهم تواطؤوا على الخطأ! فكان هناك ضبط لراوٍ، وضبطه الداقطني خطأ، وضبطه الخطيب خطأ، وتابع فيه الدارقطني، وضبطه ابن ماكولا خطأ، وضبطه الأسدي خطأ.. فكلهم ضبطوه على الخطأ، وكأنهم اغتروا ببعضهم، كل منهم يقول: فلان قال كذا.. فالحافظ الذهبي بعدما نقل هذا الكلام؛ يقول: "أفبعد كل هؤلاء الأئمة وتواطُئهم على الغلط يَسلم أحدٌ من الوهم؟!".
فالطالب النبيه الذكي هو الذي ينظر في المصنفات في الفن، ويقرأ فيها أولاً بأول. يعني إذا ذكر الشيخُ شيئًا الآن في النزهة، وقال: هناك من الكتب كذا وكذا، فيرجع وينظر فيها، فسيستدرك ويفهم أكثرَ؛ لأن الإمامَ الذي ينقلُ الآن مثل الحافظ ابن حجر أو من بعده أو من قبله، أحيانًا بل كثيرًا ما يتصرفون في العبارة. فلم يكونوا يرون حرجًا في ذلك. فإذا قال رجل عبارة في ثلاثة سطور، فيلخصها في سطرين بالمعنى. وهذا يحتاج أيضا أن يراجعَه الطالبُ حتى لا يكون قد وقع وهم أو خلل أو شيء من ذلك فيفوت عليه.
قال: (فمن أول من صنف في ذلك)؛ أي في اصطلاح الحديث.
(القاضي أبو محمد الرَّامَهرْمزيّ)، والقاضي أبو محمد الرَّامَهرْمزيّ، هو الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد، القاضي الرامهرمزي المتوفى في عام 360هـ، ومنسوب إلى رامهرمز، وهي بلدة من بلاد خوزستان. والرَّامَهرْمزيّ كان يلقب بمحدث العجم، وكان محدثَ ما وراء النهر، وكان أكبر شيوخ زمانه في هذا الوقت، كان لغويًّا أديبًا بارعًا بعد كونه محدثًا مشهورًا.
وقد صرَّح الإمام الحافظ -رحمه الله تعالى- في هذا الكلام بأن الرَّامَهرْمزيّ هو أول من صنَّف في هذا الفن. طيب.. هنا إشكال في كلام الحافظ هذا، وتعقبه بعض أهل العلم. فكما قلنا أن الرامهرمزي توفي عام 360 هـ، والحافظ يقول: إنه هو أول لمن صنف في مصطلح الحديث.
قال: (فأول من صنف في ذلك القاضي أبو محمد الرَّامَهرْمزيّ في كتابه "المحدث الفاصل"، لكنه لم يستوعب)، وبدأ يكمل القائمة.
اعترض بعض العلماء على ذلك، بأن هناك من سبق القاضي الرَّامَهرْمزيّ بمئتي عام أو مئة وخمسين عامًا، وتكلم في الحديث؛ مثل الإمام الشافعي -رضي الله عنه- فلو أحببنا أن نراجع قائمةَ من تكلم في علوم المصطلح، وسبق الرَّامَهرْمزيّ، سنجد على رأس هذه القائمة الإمامَ العلَم الكبير ناصرَ السنة، وصاحبَ المذهب أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي. والإمام الشافعي هو أول من تكلم في حُجية خبر الآحاد، والرد على من يرُد ذلك، وتكلم في قبول الأخبار وفي ردها، وهذه مباحثُ من مباحث أصول الحديثِ، ودوّن هذا، فهو مكتوب في كتابِ الرسالة الذي صنَّفه الشافعيُّ مرتين. فكيف يغفل الحافظُ ابن حجر عن ذلك؟! كيف يأتي بالرامهرمزي المتوفى عام 360هـ، ولا يأتي بالإمام الشافعي الذي ألف قبل الرامهرمزي بمئة وخمسين سنة على الأقل؛ لأن الشافعي مات سنة 204 هـ، والرامهرمزي توفي سنة 360 هـ، فبينهما على الأقل مئة وخمسون سنة بين وفاتيهما، والإمام الشافعي -كما قلنا- أول من كتب في علم المصطلح، فكيف يخفى هذا على الحافظ ولِمَ لم يذكره؟ وهذا تساؤل مهم جدًّا سنجيب عليه.
أيضا تلا الإمام الشافعي في التصنيف في مصطلح الحديث الإمام الحميدي أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي، شيخ البخاري وتوفي عام 219 هـ. والحميدي -رحمه الله- كأنه كان له كتاب في المصطلح، يظهر هذا، لكن ليس أكيدًا .. لماذا؟ لأنَّ الحافظ الخطيب البغدادي في كتاب "الكفاية"، ينقل بإسناد واحد كلامًا في مسائلَ شتى في المصطلح للإمام الحميديِّ، فكأنه -والله أعلم- كان له كتاب ينقلُ منه الحافظ الخطيب البغداديُّ. فهناك أكثرُ من عشرةِ مواضعَ في كتابِ "الكفاية"، ينقل الخطيب البغدادي فيها بإسناد واحد كلامًا في مسائلَ متفرقة في علوم الحديث، فالظاهر أن الإمام أبا بكر عبد الله بن الزبير الحميدي، شيخ البخاري كان له كتاب في المصطلح لكنه لم يصل إلينا، وهذا ما ينقل منه الخطيب.
ثم تلاه بعد ذلك الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري، تلميذ البخاري والمتوفى عام 261 هـ. و مسلم -كما لا يخفى على أحد- لما ألّف كتابه الصحيح، قدّم له بمقدمة طويلة، وتناول فيها شيئًا من علوم الحديث، فهذا أيضا نوعٌ من التصنيف المبكر في علم المصطلح.
ثم جاء من بعده الإمام أبو داود السجستاني، سليمان بن الأشعث المتوفى سنة 275 هـ، في رسالته إلى أهل مكة، التي هي كالمقدمة لكتابه السنن، وتكلم في هذه الرسالة لأهل مكة عن كثير، وطائفة كبيرة من علوم الحديث، ورأيه في بعض المسائلِ، وهذا يُعدّ أيضًا تصنيفًا في علوم الحديث.
ثم تلاه بعد ذلك الإمام الحافظ أبو عيسى الترمذي صاحب الجامع، وقد كتب كتابه (العلل) الصغير الذي في آخر الجامع، وتناول فيه شيئًا كثيرًا أيضا من مسائل علوم الحديث. وهذا أيضًا تصنيف حديثي.
ثم بعد ذلك كتب أبو جعفر الطحاوي رسالته الشهيرة "التسوية بين حدثنا وأخبرنا"، وهي موجودة بكاملها في كتابه "شرح مُشْكِل الآثار"، وطبعها بعضهم مُفردةً.
كذلك الإمام أبو حاتم بن حِبان البُستي، المتوفى عام 354 هـ كتب كتابين "الثقات" و"المجروجين"، وقدم لكل كتاب منهما بمقدمة طويلة، تتناول شيئًا من فنون علم أهل الحديث.
فكل هؤلاء سبقوا الرَّامَهرْمزيّ، فلماذا لم يذكرهم الحافظ ابن حجر؟!
الظاهر والله أعلم، أن الحافظ ابن حجر لم يتعرض لهؤلاء؛ لأن هؤلاء تكلموا على مسائلَ من علوم الحديث ضمْن كتبٍ لم تُفْرَد مستقلةً لعلم الحديث، فتجد الشافعي ذَكَرَ في أثناء الرسالة، والرسالة كانت عبارة عن مباحث أصولية ومباحث لغوية، ومباحث متعلقةً بقبول الأخبار، فكان علم الحديث ليس هو البابَ الرئيسيَّ فيها. فالشافعي في الرسالة ذكر مباحثَه علم الحديث كلها مُضَمَّنَةً مع مباحثَ أُخرى كثيرة من علم الأصول وما شابه ذلك، ولذلك لما لم يكن مستقلًّا في هذا الباب -علم الحديث- لم يعتبر به الإمام ابن حجر، كأنه كان يُريد أن يعدَّ من صنَّف على سبيلِ الاستقلالِ كتابًا في الفنِّ، وبالتالي سيكون من فعل ذلك هو الإمام الرَّامَهرْمزيّ، وتكون كل هذه الجهود التي ذكرناها قبل الرَّامَهرْمزيّ هي محاولات وكتابات وتصانيفَ في الفنِّ لكنها لم تكن متمحضة لعلم الحديث مستقلًّا الكتاب فيها بهذا العلم وحده. ولهذا لم يُعرّج عليها الحافظ وبدأ ذكْر البداية بأبي محمد بن خلاد الرَّامَهرْمزيّ -رضي الله عنه-. كل هذه المصنفات التي ذكرناها لا تُهمل فإن فيها فوائد كثيرة جدًّا.
قال: (فمن أول من صنف في ذلك القاضي أبو محمد الرَّامَهرْمزيّ في كتابه "المحدِّث الفاصل"، لكنه لم يستوعب).
هذا الكتاب "المحدث الفاصل" مع أنه كتاب مستقل في علم المصطلح، وليس فيه أبواب أخرى، ولا يوجد فيه من أصول الفقه مثلا، وليس هو كتابا في سرد الأحاديث، وهذه مقدمة له.. لا، هو كتاب مستقل في المصطلح، لكنه لم يستوعب فيه كل أنواع الحديث. بل تعرض لبعض مباحث المصطلح، وهناك مباحث كثيرة لم يذكر عنها الرَّامَهرْمزيّ شيئًا أصلا. فكان أشبه ما يكون بخواطر أو بمسائلَ وفوائدَ، وأبواب منتقاة في هذا الفن، فكان يذكر ما يحتاج إليه المحدث في ذلك الزمان.
يقول الحافظ ابن حجر: (فمِن أول من صنف في ذلك..).
ولو أحببنا أن ندققَ في كلام الحفظ، نجده يقول: (فمن أول..). وهو بهذا لم يَزعم أن هؤلاء أول من صنفوا فـ "من" هذه تنفي مُطلق الأولية. كأنه يقول، هؤلاء مِن أول مَن صنفوا. ولا ينافي هذا أن يكون هناك من صنف معهم أو قبلهم أو شيئًا من ذلك.
يقول: (والحاكم).
أي الإمام الحاكم بعد الإمام الرَّامَهرْمزيّ، وهو الإمام الحاكم أبو عبد الله النيسابوري، صاحب "المستدرك"، وهو محمد بن عبد الله بن البيِّع المشهور بالحاكم النيسابوري، والبعض كان يتصور أن لفظَ الحاكم لقب يُطلق على من أحاط علمًا بالسنةِ، وهذا غلطٌ. فإن هذا لقبٌ ليس له علاقة بالحديثِ أصلا، وسيأتي تفصيل هذا في موضعه -إن شاء الله-.
والحاكم أبو عبد الله النيسابوري أيضًا ألّف كتابًا في علوم الحديث، هو "معرفة علوم الحديث"، وهو كتاب مشهور. وهذا الكتاب كما يقول الحافظ ابن حجر: (لكنه لم يهذِّب ولم يرتِّب)، فهو قد صنفه على أنواع، معرفة أنواع علوم الحديث، فالنوع الأول الصحيح والضعيف، ..، وهكذا.
لكنه لم يكن مهذَّبًا. ففي الكتاب أمور كثيرة تحتاجُ إلى إعادة نظر. فكأنَّ الرجل كان يحتاجُ لأنْ يراجعه عدة مرات بعد ذلك لكي يُنقحه ويحرره. ففيه مسائل تحتاج إلى تحرير، وكذلك لم يرتبه الترتيب المنطقي، ففيه أبواب ينبغي أن تقدم أو تؤخر. ولعل هذا كان من طبيعة الحال في التصنيف؛ لأنهم كانوا ساعتئذٍ يُملون هذه الكتب، فكانت طريقة التصنيف في ذلك الزمان؛ أنهم يُملونها على الطلبة، فربما يُملي ما يحتاجُه الطلبةُ الآن، أو ما يطرأ على بالِها أو ما يكون حاضرًا عندهم فيقدم أو يؤخر.
والكتاب هذا مطبوعٌ أيضًا كسابقه. فكتاب "المحدث الفاصل" مطبوع منذ زمن بعيد، منذ أكثر من خمسين عامًا، وكذلك كتاب الحاكم لأبي عبد الله بن البيّع مطبوع هو الآخر منذ وقت طويل جدًّا.
قال: (وتلاه أبو نعيم الأصبهانيُّ). أبو نعيم الأصبهاني هو أحمد بن عبد الله الأصبهاني الصُّوفي الفقيه الحافظ الكبير مُحدث عصره وأوانه، وشيخ أصبهان. تلا الحاكم، فكتب كتابًا كأنه مستخرجٌ على كتاب الحاكم؛ لأنه أتى بكتاب الحاكم هذا، وبدأ يزيد عليه بعض الزيادات، مثل بعض التعليقات على كتاب الحاكم.
يقول: (فعمل على كتابه)؛ أي كتاب الحاكم، (مُستخرِجًا)؛ يعني آتي بالكتاب، وأحاول أن أزيد عليه. والاستخراج عند أهل الحديث أن الراوي أو الإمام الذي يريد عمل مُستَخرج، يأتي بكتابٍ من كُتب الأصول مثل مسلم أو كتاب البخاري، ويحاول أن يلتقي بالإمام صاحب الكتاب الأصلي مع شيخه أو شيخِ شيخه ويسوق نفْس الحديث، هذا هو الاستخراج. لكن قصْد الإمام الحافظ ابن حجر هنا باستخراج أبي نعيم أنه كان يريد أن يَزيد زيادات وفوائدَ على كتاب الإمام الحاكم النيسابوريِّ.
يقول: (فعمل على كتابِه مستخرجًا، وأبقى أشياء للمتعقِّب)، ولم يستوعب أيضا، وفاته أشياء، ولو جاء من بعده؛ لتعقبه فيها. وطبعًا كتاب أبي نعيم لم نره إلى الآن.
(ثم جاء بعدهم الخطيبُ أبو بكر البغدادي، فصنَّف في قوانين الرواية كتابًا سماه "الكفاية"، وفي آدابها كتابًا سماه "الجامع لآداب الشيخ والسامع". وقلّ فنٌّ من فنون الحديث إلا وقد صنف فيه كتابًا مُفردًا، فكان كما قال الحافظ أبو بكر بن نُقطة: كلُّ من أنصفَ علِم أنَّ المحدِّثين بعد الخطيب عِيالٌ على كُتبه).
الإمام الخطيب البغدادي هذا كان رجلاً قصة.. وهو أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، ولد -رحمه الله- عام 392 هـ، وتوفي عام 463 هـ، وكان إمامًا كبيرَ القدْر، يُعد حافظَ المشرقِ، فكانوا يلقبونه بحافظ المشرق. لم يكن في زمانه أحفظُ منه -رحمه الله تعالى-، وصنف كتبًا كثيرة جدًّا، كما يقول الحافظ ابن حجر: "قل فن.."، فعلوم الحديث التي نتكلم فيها مئة علم تقريبًا، كما يقول الإمام الحازميُّ: "وعلوم الحديث نيَّفت على المئة نوعٍ، لو أنفق الطالب عمره في تحصيلِ علم منها؛ لما كفاه".
فلو تخصص الطالب في علم واحد كالصحيح فقط أو الحسن فقط، أو المقلوب أو المُصحَّف، واستفرغ وسعه وأراد أن يُحيط علمًا بكل جوانب هذا الفن، وهذا النوع من أنواع الحديث المئة؛ لما كفاه عمره، فيموت، وقد فاتته أشياء لم يُحصِّلْها؛ لأن علم الحديث علم واسع جدا، فمع سعة هذا العلم وكثرة تفرعاته؛ فإن الحافظ الخطيب البغدادي قلّ فنٌّ من فنون علم أهل الحديث تلك المئة؛ إلا وله مُصنّف جامع.
ولهذا كلُّ من جاء بعد الخطيبِ، حتى يكتبَ في المصطلحِ ويَتوسعَ ويُحررَ، لا بدَّ أن يأتي بكتب الخطيب البغداديِّ وينقل منها. وهذا عَجبٌ؛ أنْ بوركَ له في وقته، وكتبه كثيرة، ورُزق القبولَ. فكتابه الفخم الفذّ "تاريخ مدبنة السلام بغداد" -ردَّها الله على المسلمين، وأنقذها من أيدي الروافض والأمريكان وأشياعهم-، فهذا الكتاب الفخم الضخم الكبير، الذي يَبكي قارئه؛ لِما يرى فيه من مجْد الإسلام وعظمة أهله، وشدة ريَّا هذه البلاد، وما كان فيها من العلم والخير والنور والبركة بذكْر الله تعالى ومصنفات العلماءِ، ودُخول الكبراءِ والعلماء والفقهاء والمحدثين، ثم يَنظر الآن فيرى ما هي فيه!!
فهذا الكتاب الضخم كتاب من كُتبه، وله غيره كثير جدًّا كما ذكر الحافظ ابن حجرٍ، وكما قلتُ: ليس هناك فنٌّ من فنون الحديثِ، إلا وله فيه كتاب مستقل، يَكاد يكونُ أجمع ما صُنِّف في البابِ على صُعوبة بعض هذه الفنونِ، واحتياجها إلى تحريرِ من نوع خاصٍّ، كالمؤتلف والمختلف، والمتشابه والمتفق والمفترق، والسابق واللاحق، والمزيد، والمتصل من الأسانيد، وسيأتي لا شكَّ عند دُخولنا في عُرْض الكتابِ وبسْطه تفاصيلُ لها.
وقد ألَّف الخطيبُ من أشهرِ كُتبه في المصطلح كتابين؛ كتابًا في قوانينِ الرواية، وهو كتاب "الكفاية"، وهو من أنفع الكتب على الإطلاق؛ لأنه جاء بالمصطلح غضًّا طريًّا.
وألفه الخطيب قبل تاريخ 463 هـ، وميزة كتاب الخطيب وأشباهه والحاكم ومحمد الرَّامهُرمزي، أنه لا يغلبُ عليه ما يغلب على كتبِ المتأخرين من الاصطلاحات الكثيرة والدور في فلك الاصطلاح، فكتب المتأخرين والمعاصرين تراها يغلب عليها الجفافُ؛ لأنه كل الذي يَعنيهم تعريف كذا، وشروطه.
نعم؛ هذه فيها فوائد كثيرة، لكن لا ينبغي التوسع في هذا؛ فقد تجد بعضهم يفرد في عشر صفحات للتحرير في مصطلح، في تعريف فنٍّ من الفنون، أو تعريف كلمة، مع أن هذا الأمر واسع. وأهل الحديث أصلا ليسوا أهل تعاريف، ومسألة التعاريف هذا من صميم أعمال المناطقة، والمحدثون بينهم وبين المناطقة بحارُ الدم، ومعروف كلمات أهل الحديث في المنطق وأهله والفلسفة وأهلها، ولا يكادون يعتنون بها أصلا، فبينهما ما بين المشرقين، فلا علاقة بين المحدثين والمناطقة، فالانكباب والتوسع في مسألة الاصطلاحات، والشكليات والتعاريف الجامدة على حِساب الفنِّ مَضيعةٌ للوقت أحيانًا.
لكن كتب السلف أمثال الخطيب وغيره تراها كتبًا عليها نُضرة، ليس فيها من هذا شيء، تنقل لك الحاصلَ كأنك كنت تعيشُ بين هؤلاء. ولذلك فأنا أنصحُ طلبةَ العلم بألا يهابوا الدخولَ على هذه الكتب، فهي سهلة جدًّا. فكتاب الخطيب "الكفاية" أسهلُ كتاب يقرؤه الطالب لمعاصرٍ الآن، وهو كتابٌ سلس جدًّا، ليس فيه شيء صعب؛ لأنه عبارة عن حكايات وقصص ينقلُها الخطيب وتصرفات للعلماء يوضح بعضها بعضًا، وعندما يشكل عليه شيء، يسأل فيه شيخه، فليس فيه من التعقيدات اللفظية والطرق المنطقيَّة والتفاصيل الشكلية ما ينوء بمعرفته الطالب سَليم الفطرة، البعيد عن هذه العلوم المعقَّدة. فأنا أنصحُ الطلاب بألا يقطعوا النظر في هذه الكتب جميعها، وسيُفتح لهم باب كبير من النظر -إن شاء الله عز وجل-.
يقول: (وقلّ فنٌّ من فنون الحديث؛ إلا وقد صنّف فيه كتابًا مفردًا، فكان كما قال الحافظ أبو بكر بن نقطة)؛ أحد الأئمة الكبار، قال: (كل مَن أنصف؛ علِم أنَّ المحدثين بعد الخطيب عيالٌ على كُتبه).
لا يستطيع أحد أن يؤلِّف كتابًا بعد الخطيب البغدادي إلا وترى مصادره نصفها للخطيب. وكثير من العلماء لم يكنْ يَتَعَنَّى ذكْر صحيفة المصادر والمراجع، بل كثير منهم كان ينقلُ ولا يذكر من أين نقل. وبعضهم كان له في هذا الأمر قصْد، وكانوا يقولون: لا ينظر في هذه الكتب إلا أحدُ رجلين، إما جاهل يُريد أن ينتقدَني، فهذا الناقدُ سيشُقُّ عليه معرفة مصدر الكلام، فسيريحنا من نقده، أو عالم يدري مصدر الكلام، فهذا إن انتقد كان له الحق. لكن النظام الجديد الموجود الآن لا بد أن يذكر المصادر، وهذا من بركة العلم لا محالة. ومن كان يفعلُ ذلك وكان يُعَمّي؛ أي لا يذكر المصادر، إما أنه للتربية أو المحافظة على العلم، ونُحسن الظنَّ بعلمائنا، وإما لعلمه أنه من سيقرأ في هذا الفن، فمؤكد أنه قرأ ما قبله فعلم مصدر محتوى الكتاب، وأصبح هذا عُرفًا عند بعضهم، ليس فيه شيء.
لكن الآن؛ صار من آداب الطلب ومن آداب التصنيفِ والكتابة ألا ينقل أحد قولاً إلا يعزوه لقائله، ويذكر مصدره وصفحته وجزءه؛ لأنه لا يصحُّ أن نُعمّي على الناس، فالكتب والموسوعاتُ كلها موجودةٌ على أجهزةِ الحاسب ولا يَخفى على أحد شيء منها، وصار الوضع مختلفا عن ذي قبل.
قال: (ثم جاء بعض من تأخر عن الخطيب، فأخذ من هذا العلم بنصيب): جاء جماعة بعد الخطيب، والخطيب هذا كان يُعدّ مرحلةً مستقلةً، فيمكن أن نُسميه مرحلة من مراحلِ التصنيف الحديثة. فما قبل الخطيب صِنف، ومن بعده صنف، والخطيب وحده صنف ثالث، وطريقة تصنيفه تُعدّ مدرسة متقاربة الخطوِ ليس فيها شيء من تكامل الصورة، ومنهم صنف لا يتوسع في الكتابات، وما بعده صنف آخر، فالخطيب مرحلة مستقلة -رحمه الله-.
يقول: (ثم جاء بعضُ من تأخر عن الخطيب، فأخذ من هذا العلم بنصيب، فجمع القاضي عياض): القاضي عياض بن موسى اليحصبي، أحد أئمةِ المالكية الكبار، ورجل معروف جدًّا لا يخفى اسمه على طالب علم، توفي عام 544 هـ.
يقول: (ثم جاء بعض من تأخر عن الخطيب، فأخذ من هذا العلم بنصيب، فجمع القاضي عياض كتاب لطيفًا سماه "الإلماع"): القاضي عياض في كتاب الإلماع يتكلم عن مسائل السماع فقط، ولم يتكلم عن غيرها، ولم يتكلم عن كل أنواع المصطلح؛ فكتاب "الإلماع" يتكلم في مسألة السماع، وطرق التحمل والأداء، والاتصال والانقطاع فقط،. ولم يتعرض لشيء آخر بعد هذا. فتصور كتاب كبيرًا في حوالي 400 ورقة، ويتكلم الكتاب كله في هذه المسألة فقط، ولذا فإن هذا الكتاب يُعدّ مرجعًا أصيلاً في هذه المسألةِ من الكتب المفردةِ المؤصَّلة المتوسعة التي جَمعت شواردَ كثيرةً ومسائلَ عديدةً، لا تكاد توجدُ إلا في هذا الكتاب، فهو مرجع لكل من تكلم في هذه المسألة.
قال: (وأبو حفص الميّانجيّ، جمع جزءًا سماه "ما لا يسع المحدث جهله").
هذا الكتاب الظاهر -والله أعلم- أن إمامنا العلامة الكبير شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر كأنه ما رآه، ولم يكن اطلع على كتاب الميّانجي -أو الميّانشيّ كما يذكرون في اسمه-، وهو عمر بن عبد المجيد أبو حفص الميّانشي -أو الميّانجيّ-؛ نسبة إلى ميّانش -أو ميّانج-؛ وهي قرية بإفريقية، وهو نزيل مكة وشيخ الحرم، وكان من أهل العلم والخطابة الورع، وتوفي -رحمه الله تعالى- عام 581 هـ.
وكأن الحافظ اطلع على اسم كتابه، وهو اسمه رقيق ولطيف "ما لا يسع المحدث جهله"؛ كأنه يقول: إن ثَمَّ أمورًا، لا يصح جهلها من قبل المحدّثين، لكن هذا الكتب لما عثر عليه العاثرون ورآه العلماء، رأوا أنه كان ينبغي أن يُسمى "ما يسع المحدث جهله"، فليس فيه من الفوائد شيء، بل فيه من الأعاجيب والخرافات في فنِّ المصطلح ما لا يُمكن أن يذكره شخص شمّ رائحة العلم بأنفه، فلو سماه مؤلفه "ما ينبغي على المحدث جهله"؛ لكان مُصيبًا في هذا. ونحن نقول: كلٌّ يؤخذ من قوله ويرد عليه. ولا أحدَ منا يسوي شيئًا بجوار الحافظ، لكن العلماء انتقدوا عليه ذكْرَه هذا الكتاب في ضمن مصنفات الأصول في هذا الفنِّ. والكتاب في الواقع ليس ذا قيمة أبدًا، فالكتاب -على ضآلة حجمه- ضعيف في بابه، لا يُسمن ولا يُغني من جوع. ولوسماه مصنفه بعكس اسمه؛ لأصاب.
ولو أن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- ذكر مكان هذا الكتاب مقدمة الحافظ الكبير أبي عُمر ابن عبد البر على كتاب التمهيد؛ لكانَ مناسبًا. فإن أبا عمر ابن عبد البر في مطلع كتاب "التمهيد شرح الموطأ"، ذكر مقدمةً في مجلدٍ كاملٍ في علومِ الحديث رائقةً، ومن أنفع ما يكون، وينبغي أن تُضَمَّ إلى هذه الطائفة من كتب الأصول في هذا الفن.
ولو أنه ذكر مكان ذلك مقدمةَ "جامع الأصول" لابن الأثير؛ لكان مناسبًا أيضا، فمقدمة "جامع الأصول" فيها نُبذ طريفة من علوم الحديث، تستحق على إثرها أن توضع بجوار هذه المصنفات العريقة في هذا الفن. لكن أن يترك هذ الكتب المهمة، ويذكر كتاب أبي حفص الميانجي "ما لا يسع المحدث جهله" والذي فيه -كما قلت- من المعلومات المغلوطة ،والبعد التام عن سيرة أهل الحديث وسمتهم ومبادئ علومهم، ما يستحق أن يسمى بسببه الكتاب "ما يجب على المحدث جهله"؛ فهذا من الحافظ -رحمه الله- ذُهول أو تسرُّع في الذكْر، غفر الله له ورحمه.
يقول: (وأمثال ذلك من التصانيف التي اشتهرت وبسطت؛ ليتوفر علمها، واختصرت؛ ليتيسر فهمها) تجد التصانيف بين نوعين. ستجد منها ما هو متوسع جدًّا مثل تصانيف الخطيب، وتجد تصانيف هي أوسع من تصانيف الخطيب، لا سيما من أتى بعد الخطيب البغداي؛ ككلام الحافظ ابن عبد البرِّ في "التمهيد"، فبسط الكلام، وغيره، وتجد بعضها مختصرًا جدًّا، ولكلٍّ وجهة هو موليها، وكل يفيد في باب ما؛ فالمتوسع يُبسَط ويُتوسَّع فيه ليتوفَّر فيه العلم، والمختصر هذا يُختصر حتى يسهل حفظه وفهمه. والعلم لا يؤخذ إلا هكذا، فيبدأ فيه الطالب مختصَرًا، فيُحيط بالهيكل العامِّ للعلم، ويعرف أوله وآخره، وبعد هذا يبدأ يتوسع فيه جزءًا فجزءًا. وهذا مثل الذي يبني بيتًا، فيبني أولاً الأصول، ويعمل الهيكل الخرساني والقواعد، ثم يضع بعد ذلك الحوائط، ويضع من الداخل الفرشَ ويحرر ويجمل ويزين ويبهرج، فيخرج البيتُ بعد ذلك على أحسن ما يكون.
يقول: (إلى أن جاء الحافظُ الفقيه تقيُّ الدين أبو عمرٍو عثمان بن الصلاح عبد الرحمن الشَّهْرُزُورِيُّ، نزيلُ دمشق، فجمع -لَمَّا وُلِّيَ تدريس الحديث بالمدرسة الأشرفية- كتابه المشهور)، وهي "المقدمة"، وهذه نقلة جديدة في علم المصطلح.. وضاق وقتنا عن استكمال هذا التأريخ، ويكون لقاؤنا في المرة القادمة -إن شاء الله تعالى- انطلاقًا من كتابِ ابن الصلاح، ودخولا على كتاب الحافظ ابن حجر "النزهة بشرح النخبة"، وبقي معنا وقت يسير جدًّا في آخر هذه الحلقة، ويمكننا أن نتحاور حول بعض ما يشكل عليكم فيما ذكرناه، أو نستفسر عن شيء، أو نذكر بعض الأسئلة، ولإخواننا عبر الإنترنت، هناك على صفحة هذه المادة أربعة أسئلة ينبغي على الإخوة الكرام المتابعين الدخول على الصفحة الآن، وهي عبارة عن تطبيقات أو أنشطة أو اختبار مباشر حول ما ذكرناه اليوم في هذا الدرس.
الأسئلة:
ما هو عنوان الكتاب؟
كما ذكرنا عنوان الكتاب: "نزهة النظر في شرح نخبة الفكر"، وكما ذكرنا أن هذا الكتاب عبارة عن شرح لمتن، المتن للحافظ ابن حجر، والشرح أيضًا للحافظ ابن حجر.
ولما ألَّف الحافظ كتابه "النخبة" -كما سيذكر رحمه الله تعالى-، ألف بعض معاصريه عليها شرحًا، فسارع الحافظ ابن حجر ووضع شرحًا عليها، وقال: وأهل البيت أدرى بما فيه؛ لأن بعض العلماء كان يُصنف الكتاب ويتركه على حدّ قول أبي الطيبِ المتنبِّي:
أنامُ ملْءَ جُفوني عن شَواردها *** ويسهرُ الخلْقُ جَرَّاها ويَختصمُ
أي: أقول القصيدة وأنام، ويسهر القوم يختلفون ويتناقشون ماذا أريد؟! والمعنى في بطن الشاعر، والشاعر قد نام. فالحافظ ابن حجر لم يترك الناس جراها يختصمون، فكتب شرحًا ميسرًا مبسطًا كاملاً شافيًا واعيًا مستوعبًا لمسائل لهذا الفن، وكما قلنا أهلُ مكة أدرى بشعابها، وصاحب البيت أدرى بما فيه.
السؤال الثاني:
ذكرتم أن للإمام الغدادي كتابين "الكفاية"، وما هو الثاني؟
نعم ذكرنا أن للإمام البغدادي كتابين: "الكفاية" وهذا في قوانين الدراية في مصطلح الحديث. والثاني: "الجامع لأخلاقِ الشيخ والسامع"، أو "الجامع لأخلاق الراوي والسامع"، وهذا الكتاب ذكَر فيه آدابَ طالب العلْم، وهو من أفضل وأنفع وأروع الكتب المؤلفة في هذا، وأنصح عُموم طلبتي بالنظر فيه وقراءته مرارًا، هو وكتاب "جامع بيان العلم وفضله" للإمام الكبير أبي عُمر ابن عبد البر -رحمهما الله-. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almobine.yoo7.com
 
مصطلح الحديث
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» مصطلح الحديث بين المتقدمين والمتأخرين
» علوم الحديث
» الناسخ و المنسوخ من الحديث
» علوم الحديث في ضوء تطبيقات المحدثين النقاد
» مَسْألةٌ: هل يَحِقُّ لأحَدٍ مِنَ المتَأخِّرينَ أن يردّ الحديث بالشذوذ أو التفرد استقْلالاً ؟

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
المبين :: الفئة الأولى :: المنتدى الأول-
انتقل الى: