المبين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


يتناول مواضيع دينبة
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 أسباب التعجل فى الحركة المعاصرة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin



المساهمات : 629
تاريخ التسجيل : 03/03/2013

أسباب التعجل فى الحركة المعاصرة Empty
مُساهمةموضوع: أسباب التعجل فى الحركة المعاصرة   أسباب التعجل فى الحركة المعاصرة Icon_minitimeالجمعة يوليو 05, 2013 1:17 pm

أسباب التعجل فى الحركة المعاصرة

والنتائج التى ترتبت عليه : هناك ثلاثة أسباب رئيسية أدت إلى التعجل فى الحركة المعاصرة :
أولاً : عدم التقدير الدقيق لمدى بعد الأمة عن حقيقة الإسلام.
ثانياً : الانخداع بحماسة الجماهير، والظن بأن المهمة وإن كانت شاقة فهى قريبة المنال.
ثالثاً : عدم التقدير الكافى لرد فعل الأعداء ، و سنتناول كل واحد من هذه الأسباب بشىء من البيان، حين بدأت الدعوة قبل أكثر من نصف قرن، لم يكن حال الأمة قد انكشف تماماً من كل جوانبه، فقد كانت بقايا من المظاهر الإسلامية تخايل للرأى، فيظن أن الخير باق ما يزال.. لم يكن الغزو الفكرى قد تمكن من الأمة تمكنه الحالى، و كانت بقايا التقاليد تستر الخواء القابع وراءها، فلا تظهر الصورة على حقيقتها.

فأما الغزو الفكرى فكان قد بدأ منذ وقعت بلاد العالم الإسلامى فى قبضة الغرب، وبدأ العالم الإسلامى من جانبه ينبهر بما عند الغرب من تقدم مادى وعلمى، بينما المسلمون يؤمئذ متخلفون فى جميع الميادين، ثم عملت مناهج التعليم ووسائل الإعلام على تعميق الغزو وترسيخه، وتخريج أجيال تنسلخ تدريجياً من الإسلام، وتدخل تدريجياً فى عملية التغريب و لكنه حين بدأت الدعوة قبل أكثر من نصف قرن، لم يكن قد آتى ثماره كاملة، فلم يكن يتعرى على الشاطئ إلا نساء الطبقة الأرستقراطية! أما بنات الطبقة المتوسطة فكن ما زلن يستحين من ذلك العرى، وإن اشتهته أنفسهن من كثرة ما تنشر الصحف والمجلات من صوره وأخباره! وأما بنات الشعب فكن ينفرن منه نفوراً ويستنكرنه استنكاراً! وكانت الصداقات ((البريئة!)) بين الأولاد والنبات تتم على استحياء شديد، وفى تكتم عن الآباء والأمهات، والفتاة التى تستعلن به تعتبر ساقطة فى نظر الناس! وكان الفكر الغربى ينشر فى الصحف والكتب إما منسوباً إلى أصحابه الأصليين من مفكرى الغرب، إذا كان الناقل أميناً يحترم نفسه، وإما مسطواً عليه ومنسوباً إلى ناقله فى كثر من الأحيان! وكان المسرح، وكانت السينما، وكانت الإذاعة، كلها تعمل لحساب الغزو الفكرى، ولكن روادها بعد محدودون، وتأثيرها بعد ما يزال فى منشئه.

باختصار لم تكن عملية التحول قد تسارعت بالدرجة التى صارت إليها فيما بعد، والتى قفزت قفزات سريعة بعد الحرب الكبرى الثانية بصفة خاصة ومن جانب أخر كانت بقايا التقاليد ما تزال قائمة، يخيل للرائى أنها ستصمد لضغط الغزو الفكرى، كما صمدت حوالى نصف قرن قبل ذلك! فقد كان ما يزال هناك من يرتاد المساجد من الشباب، حتى فى العواصم الكبرى التى تركز فيها الغزو الفكرى، وفى رمضان يصوم الصغار والكبار، ولا يجرؤ أحد أن يستعلن بتناول طعام أو شراب، حتى لو كان مفطراً فى واقع الأمر! وكان الزواج يتم بمعرفة الأبوين وعن طريقهما فى أغلب الأحيان، وكانت الأسرة ما تزال متماسكة، لرب الأسرة فيها كلمة مسموعة، والأولاد والبنات متقيدون بالتقاليد العامة لا يخرجون عنها، ومن خرج عليها يجد من الناس الإعراض والنفور؛ أما الريف فكان فى مجموعه باقياً على حاله كما كان منذ أجيال، يستنكر الفساد الموجود فى المدينة، ويتحسر على ((أيام زمان)).

فى مثل هذه الظروف كان يمكن أن تخفى على الرائى حقائق كثيرة!، لقد كان الإسلام قد تحول منذ فترة غير قصيرة إلى مجموعة من التقاليد أكثر منه شحنة حقيقية حية .. وفى فترة معينة فى حياة الأمم يكون تمسك الناس بالتقاليد شديداً، إلى حد يتوهم معه الإنسان أن الناس على دين حقيقى! ولكن التقاليد تجف بعد فترة حين ينقطع عنها المدد الحى الذى يمنحها الحيوية والفاعلية، فتبدأ تتيبس وتجمد من ناحية، وتفقد تماسكها من ناحية أخرى.. وقد تبقى على ذلك قروناً إذا لم يحدث تغيير عنيف فى المجتمع، وإن كان ما لها إلى التفتت والانهيار فى النهاية، بفعل عوامل ((التعرية)) الفكرية إن صح التعبير؛ أما حين تحدث تغييرات عنيفة فإن التقاليد لا تستطيع أن تصمد، وسرعان ما تنهار.

والذى حدث فى العالم الإسلامى أن معاول الهدم- المتمثلة فى الغزو الفكرى- كانت عنيفة شديدة العنف، موجهة بشدة لهدم الإسلام ذاته فضلاً عن تقاليده الظاهرية، فلا جرم تنهار التقاليد انهياراً سريعاً تحت طرقات المعاول التى تعمل ليل نهار، فى دأب لا يفتر، وإصرار لا يتحول عن أهدافه.

وفى نصف قرن تغيرت الأمور تغيراً مريعاً، حتى لكأن الأمة الأولى قد ذهبت، وجاءت بدلاً منها أمة أخرى لا صلة بينها وبينها إلا تشابه الأسماء! وسرى الفساد الذى أطلقوا عليه اسم((النهضة)) سريعاً، كسريان السم فى البدن الملدوغ  فلم تعد بنات الأسر الارستقراطية وحدهن هن اللواتى يتعرين على الشاطئ، إنما صارت بنات الطبقة الوسطى، ورويداً رويداً وصلت العدوى للريف! وصارت العلاقات بين الأولاد والبنات- البرئ منها وغير البرئ- شيئاً عادياً فى المجتمع، بل أصبحت إحدى أصوله وتفككت الأسرة ولم يعد سلطان عليها، وصار للأولاد والبنات شأنهم الخاص الذى لا يجوز للوالدين أن يتدخلا فيه و أصبح((الدين))عموماً علامة الجمود والانغلاق، وعلامة التخلف عن ركب الحياة الحى المتحرك، وأصبح الثبات على أى شئ عيباً يعير به صاحبه، لأن الأصل فى الأشياء هو التطور وليس الثبات!.

فى نصف قرن حدث هذا كله، ونسب إلى التطور وإلى النهضة، وإلى مواكبة العالم المتحضر، وإلى ثورة التكنولوجيا وثورة الاتصالات! و ما كان يمكن بطبيعة الحال أن يبقى العالم الإسلامى خارج الأحداث التى تمور بها الأرض، ولكن صورة أخرى مختلفة تماماً كانت قمينة أن تحدث، لو أن الإسلام كان حيا فى نفوس أصحابه، وليس مجرد تقاليد خاوية من الروح.

فأما التقدم العلمى والتكنولوجى فهو لا يشكل مشكلة للإنسان المسلم، وقديماً استوعب المسلمون كل الحركة العلمية التى كانت قائمة فى الأرض، ثم أخذوا يضيفون إليها إضافات جذرية، أبرزها استخدام المنهج التجريبى فى البحث العلمى، فضلا عن كشوف علمية أخرى كانت هى نواة التقدم الحالى ولكن المسلم لا تهتز عقيدته حين يتعلم العلم، ولا يهتز إيمانه بالله واليوم الآخر، لأنه صاحب كيان سوى تتجاوز فيه- وتتعاون- نزعة الإيمان ونزعة المعرفة، بلا تعارض ولا تناقص ولا تضاد: ((إنما يخشى الله من عباده العلماء))(فاطر: 28).

إنما حدث التعارض والتناقص فى أوروبا، نتيجة خلل فى الدين الذى كانت تعتنقه، وخلل فى الكيان الذى أورثها إياه ذلك الدين، لا لأن الدين بطبيعته مناقض للعلم، ولا لأن العلم يمكن أن يكون بديلا من الدين! ولو أن الإسلام كان حياً فى نفوس أصحابه، وليس مجرد تقاليد خاوية من الروح، فقد كانت الأمة الإسلامية قمينة أن تقدم للبشرية نموذجاً حضارياً مختلفاً عن النموذج الجاهلى الغربى الذى ينتقل من اختلال إلى اختلال، والذى لا يستوعب فى أى طور من أطواره إلا أحد شقى الإنسان: إما الشق الروحى، وإما الشق المادى إما الشق الذى يعمل من أجل الآخرة، ويهمل الحياة الدنيا، وإما الشق الذى يعمل من أجل الدنيا ويهمل الآخرة، ويعجز فى جميع الأحوال عن استيعاب الإنسان كله كما خلقه الله، بشقيه معاً مجتمعين مترابطين: قبضة الطين ونفخة الروح: ((إذ قال ربك إنى خالق بشراً من طين(71) فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين))(ص: 71-72).

وإن عجز الأمة عن استيعاب التقدم العلمى والتكنولوجى الحادث فى الأرض، وعجزها عن تقديم النموذج الحضارى المتميز، كانت له دلالة لا ينبغى أن تفوت صاحب الدعوة دلالته العامة أن الشعلة الحية لهذا الدين فى نفوس أصحابه قد خبت، أو ضعفت إلى الحد الذى يعجزها عن التفاعل الحى مع الأحداث، كما تفاعلت من قبل مع أحداث التاريخ وهذا الضعف لابد له بطبيعة الحال من أسباب، فهو ليس من طبيعة هذا الدين الحى الموار بالحيوية، الذى صنع الأعاجيب فى حياة البشرية كلها، حين آمن به أصحابه إيماناً صادقاً واعياً، وتحركوا به فى دنيا الواقع ولابد أن تكون هناك أمراض أصابت القلب فمرض الجسد كله: ((ألا إن فى الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب)) ولو انكشفت تلك الأمراض لأصحاب الدعوة من أول الطريق، لعملوا على علاجها أولاً قبل الانطلاق لو اتضح لهم أن كل ألوان التخلف التى وقع فيها المسلمون، من تخلف علمى ومادى وسياسى وحربى وحضارى وثقافى، نشأت كلها من التخلف العقدى الذى أصابهم فى الفترة الأخيرة بصفة خاصة، لوضعوا منهجاً للدعوة غير الذى ساروا عليه بالفعل، ولكانت لهم رؤية مختلفة فى طريق العلاج.

ولا شك أن حقيقة بعد الأمة عن الصورة الصحيحة للإسلام، كانت واضحة وضوحاً كاملاً للدعاة؛ لأنها كانت أظهر من أن تخفى على أحد ولكن مدى هذا البعد ونوعيته، هما اللذان كانا خافيين تحت قشرة التقاليد الخادعة، التى تخيل للرائى أن البناء تحتها ما يزال سليماً، أو أنه لا يحتاج إلا إلى ترميمات قليلة هنا وهناك! .

كان ينبغى للدعوة أن تكشف عن الأساس ذاته، لترى إن كان قد بقى سليماً، أم تهرأ خلال الهزات المتوالية التى مرت بالأمة خلال التاريخ، ليتقرر فى حسها نقطة البدء: هل هى ترميم البناء، أم تجديد الأساس.

لم يكن الفساد الذى ألم بالأمة هو فساد السلوك وحده، إنما تعدى ذلك إلى فساد المفاهيم، وفساد المفاهيم أخطر كثيراً وأشق علاجاً من فساد السلوك، حين يفسد سلوك فرد أو جماعة أو أمة، مع وجود مفاهيم صحيحة، فالإصلاح- مهما بلغت مشقته- أيسر منالا وأقرب رجاءً مما لو كانت المفاهيم ذاتها قد فسدت، لأنك عندئذ تحتاج إلى جهد مضاعف، جهد فى تصحيح المفاهيم وهو الأشق، وجهد فى تصحيح السلوك.

وحين بدأت الدعوة كانت المفاهيم كلها فى الحقيقة قد فسدت- كما ألمحنا من قبل- حتى مفهوم لا إله إلا الله، بل بدءاً بمفهوم لا إله إلا الله، فلم يبق منها غير الكلمة المنطوقة باللسان، إلى جانب بعض الشعائر التعبدية عند بعض الناس، يؤدونها تقليداً أكثر مما يؤدونها أداء حياً واعياً، يربط الإنسان بمنهج حياة متكامل، يشمل الحياة كلها: عبادتها وعملها، سياستها واقتصادها، روابطها الاجتماعية وروابطها الفكرية كلها فى آن كانت عوامل كثيرة قد أثرت فى إفساد مفاهيم الإسلام الأساسية فى حس الناس، فلم يعودوا على وعى بها فى صورتها الصحيحة التى أنزلت بها من عند الله، ووعاها ومارسها الجيل الأول رضوان الله عليهم، والأجيال التى تلته، كان الفكر الإرجائى قد أخرج العمل  من مسمى الإيمان،! وزعم أن الإيمان هو التصديق والإقرار لا أكثر! وأن من قال: لا إله إلا الله فهو مؤمن، ولو لم يعمل عملاً من أعمال الإسلام! .

وكان الفكر الصوفى قد حول الإسلام إلى سبحات روحية، وأوراد وأذكار، وهيام وجدانى لا يتحرك فى واقع الأرض، ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا يقوم بجهاد، فضلاً عن الخلل العقدى فى عبادة الأرضحة والأولياء والتقدم إليها بألوان من العبادة لا تجوز لغير الله و كان الاستبداد السياسى منذ بنى أمية، فبنى العباس، فالمماليك، فالعثمانيين، قد صرف الناس عن الاشتغال بالأمور العامة، ووجههم إلى الاهتمام بشئونهم الخاصة، وحصر مفهوم العبادة فى الشعائر التعبدية، والفضائل الفردية التى لا تتدخل فى شئون المجموع و تحول التوكل إلى تواكل سلبى دون الأخذ بالأسباب، وتحولت عقيدة القضاء والقدر إلى تخاذل وتقاعس، بعد أن كانت عقيدة إقدام وجرأة فى مواجهة الأعداء والأحداث: ((قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولنا وعلى الله فليتوكل المؤمنون(51) قل هل تربصون  بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون))(التوبة: 51- 52).

وانفرج الطريق بين العمل للدنيا والعمل للآخرة، بعد أن كان طريقاً واحداً أوله فى الدنيا وآخره فى الآخرة: ((وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا))(القصص: 77)0 ((هو الذى جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور))(الملك: 15) فأهمل مجموع الأمة طريق الدنيا، من علم وقوة وتمكن فى الأرض وعمارة لها وتحسين لأحوالها، وانصرفوا إلى ما ظنوا أنه يقربهم إلى الله، من حلقات الذكر وهيمان الوجد، بينما انصرف مجموعة من شرار الناس إلى الدنيا بمغرياتها، من أموال وبنين وزينة وزخرف وترف وتسلط على الناس، ونسوا البعث والنشور، والحساب والجزاء، فعاثوا فساداً فى الأرض، والأمة فى قبوعها السلبى لا تتعرض له بسوء!.

وهذه الأمراض كلها، التى أفرغت الدين من محتواه الحى،وأفرغت ل إله إلا الله من شحنتها الفاعلة، كانت تستلزم البدء بتصحيح مفهوم لا إله إلا الله، وتربية قاعدة صلبة راسخة البناء، قبل التوجه إلى تجميع الجماهير! .

وإذا كانت بقايا التقاليد، التى كانت قائمة فى المجتمع عند بدء الدعوة، قد خدعت الدعاة عن حقيقة المرض الذى أصاب الأمة فى أساس عقيدتها، فإن حماسة الجماهير فى تلقى الدعوة قد زادتهم انخداعاً عن حقيقة الواقع، تلقت الجماهير الدعوة بحماسة ملحوظة، وتجمع حول الإمام الشهيد فى سنوات معدودة، ما يقدر بنصف مليون من البشر فيهم الكثير من الشباب، وتلك نسبة عالية إذا قدرنا أن تعداد الشعب المصرى كله فى ذلك الوقت كان أقل من عشرين مليوناً، وإذا استبعدنا من تعداد النساء والأطفال والشيوخ، الذين لا يفكرون فى الانشغال بأى أمر من الأمور العامة، أو يرحبون بأى جديد يظهر فى الساحة!.
           
ولا شك أن الفيض الروحى الذى كان يتمتع به الإمام الشهيد، وقدرته الفائقة على التأثير فى مشاعر الناس، كان لها أثر فى تلك الحماسة الفياضة التى قوبلت بها الدعوة من جمهور كبير من الناس، وما كان يمكن لشخص لا يملك تلك الموهبة، أن يجمع هذا الحشد الهائل من البشر، فى مثل هذا الوقت القصير، و لكن فلننظر من جانب آخر فى تلك الجماهير، لأى شئ تجمعت على وجه التحديد؟.

لقد وجدت تلك الجماهير من يشبع جوعتها الروحية، بطريقة((متنورة)) تختلف عن حلقات الذكر التى يلجأ إليها العامة لإشباع روحانيتهم عند مشايخ الطرق الصوفية، والتى كان المثقفون ينفرون منها ولكنهم يفتقدون البديل المتنور، فوجدوه فى شخص الإمام الشهيد وكلامه المؤثر، يشبع روحانيتهم و يحافظ فى الوقت ذاته على وعيهم، فلا يغرق فى الخدر الذى يسلب الشعور و وجدت من يحى آمالها فى عودة الإسلام إلى الوجود، بعد النكسة الحادة التى أصابت الناس بزوال الخلافة و وجدت من يرتفع بها عن ألوان الدنس التى كانت قد أخذت تلوث المجتمع، ويردها إلى المثل الرفيعة والأخلاق الفاضلة و كل ذلك دون أن يتعرضوا لأية مخاطر، ولا يبذلوا من الجهد أكثر من الحضور الاستماع! .

ولكن هذه الجماهير التى جاءت بهذه السهولة ذهبت بالسهولة ذاتها حين بدت فى الأفق بوادر المخاطر! ذهبت ولم تعد! فما كان فى تقديرها قط أن حضورها واستماعها سيعرضها لأية مخاطر، ولا كانت مستعدة أى استعداد أن تعرض نفسها للمخاطر و لو عرفت ذلك أو توقعته من مبدأ الأمر ما جاءت ولا فكرت فى المجئ!، لم يبق حول الإمام الشهيد إلا الذين رباهم على عينه، ووهب لهم طاقته الحقيقية وجهده الحقيقى.

هل كان كسباً للدعوة مجئ هذه الجماهير الحاشدة التى فرت عند أول بوادر الخطر، أم كان أحد أسباب التعويق؟ .

سننظر فى هذا الأمر حين نستعرض ردود فعل الأعداء00 ولكن لنا هنا وقفة: ما الذى جعل الدعوة تتجه فى تلك الفترة الباكرة إلى الجماهير؟! إنه وهم حسن النية، يجسن الظن بأحوال الناس، ويعتقد أن نقطة الخلل عندهم هى فساد السلوك، فإذا وعظوا بالقول المؤثر فقد انحلت المشكلة، واستقامت هذه الجماهير على طريق الإسلام، وأصبحت جنوداً مخلصة للدعوة، أو فى القليل خامات صالحة للتجنيد، فتتحرك بهم الدعوة نحو الهدف المنشود! .

لم يتضح لأصحاب الدعوة فى مبدأ الأمر- كما اتضح لهم فيما بعد- أن الخلل ليس مقصوراً على فساد السلوك، ولكنه واصل كذلك إلى المفاهيم، وخاصة فيما يتعلق بتحكيم شريعة الله، وأن الأمر فى حاجة إلى جهد لتوصيل الحقيقة إلى الجماهير00 لقد اتضح ذلك فيما بعد و لكن بعد ما كانت الدعوة قد قطعت شوطاً فى التوجه إلى((الجماهير))، على أساس أنها صالحة- بالموعظة المؤثرة والشحن العاطفى- أن تكون جنوداً مخلصة للدعوة، أو فى القليل خامات صالحة للتجنيد و بعد ما كان هذا التوجه إلى الجماهير، وحشدها بهذه الصورة، والتحرك بها على الساحة السياسية، قد أثار ردود الفعل المتوقعة وغير المتوقعة عند الأعداء.

عندما تتحرك الجماهير تنزعج السلطات المحلية، وحينما تكون الحركة إسلامية تنزعج السلطات المحلية والسلطات العالمية فى آن واحد و قد يكون انزعاج السلطات العالمية أشد! ولكى ندرك هذا الأمر على حقيقته ينبغى أن نقرأ صفحات من التاريخ
فى القرنين الأخيرين، كان قد ظهر جلياً أن أحوال العالم الإسلامى فى تدهور مستمر فى جميع المجالات فالدولة العثمانية التى كانت أوروبا تخشاها وترهبها، قد أخذ سلطانها يتضاءل ويتقلص، وبدأت روسيا القيصرية تعدو على أملاكها دون أن تستطيع الرد، أو استرداد ما تفقده من الولايات، وتمردت بلاد البلقان بتحريض الدول الأوروبية، وتمردت الأقليات فى داخل العالم الإسلامى، وبدأت الدولة تترنح تحت وقع الأحداث أما الأمة الإسلامية فلم تكن أحوالها أقل سوءاً، فالتخلف يحيط بها من كل جانب، والجهل والفقر، والانغلاق على النفس، والتبلد على الأحداث عندئذ رأت أوروبا أن الفرصة قد سنحت أخيراً للقضاء على عدوها القديم، فاجتمعت وتآمرت، وخططت للاستيلاء على العالم الإسلامى كله، وإخضاعه للدول الأوروبية فيما سمى((بالاستعمار))، ودخل مع أوروبا الصليبية عنصر جديد، هو اليهودية العالمية التى كانت تخطط لحسابها الخاص، ولكن فى تعاون كامل مع الصليبية، من أجل إنشاء وطن يهودى فى فلسطين و بعد رفض السلطان عبد الحميد مطالب اليهود بإقامة وطن لهم فى فلسطين، اتحدث تماماً مصالح اليهودية العالمية مع مصالح الصليبية العالمية، فصار التخطيط واحداً وإن كان كل فريق يسعى لتحقيق مصلحته الخاصة فى نهاية المطاف و كان التخطيط محكماً فى كل اتجاه، وكان تنفيذه ميسراً بالنسبة للصليبية الصهيونية، بسبب فقدان الأمة لوعيها الإسلامى، وعزيمتها الإسلامية التى أوصها الله بها فى قوله تعالى: ((ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين))(آل عمران: 139).

وكان أخطر الأسلحة التى استخدمها الأعداء فى محاربة الإسلام- بعد أن استتب لهم الأمر عسكرياً وسياسياً- هو الغزو الفكرى، الذى كان هدفه قتل روح المقاومة للغزو الصليبي الصهيونى، بالقضاء على مكمن العقيدة داخل القلوب، وتخريج أجيال تتقبل العبودية للغرب راضية بها، إن لم تكن مندفعة إليها مستعذبة إياها، ظانة- وهى تسعى حتفها بظلفها- أنها متجهة فى طريق النجاة!.

ولم يخف على الصليبية الصهيونية أن شعوب الأمة الإسلامية قد تستيقظ من غفوتها ذات يوم، وترفض التبعية المذلة للغرب، وتسعى إلى الاستقلال، فرتبت نفسها لهذا الأمر كذلك، ببذر اتجاهات وطنية وقومية، وإنشاء زعامات تتعلق بها الجماهير وتتحلق حولها، وهى مصنوعة على عين الاستعمار، كانت الثورة محدودة المطالب محدودة الأهداف، تطالب بالاستقلال العسكرى- إن قويت عليه- أو العسكرى والسياسى- ظاهراً على الأقل- دون أن تفكر فى الاستقلال الفكرى والثقافى والروحى، فتظل التبعية للغرب قائمة فى واقع الأمر، من خلال الأنظمة الوطنية والقومية، و((الثورات التحررية))، والجماهير فى غفلتها تصفق وتطرب لما يعرض أمام ناظريها من المسرحيات.

باختصار لقد كان الذى تخشاه الصليبية والصهيونية، وتسعى لمنعه بكل الوسائل، هو حدوث صحوة إسلامية، فهذه هى التى لا تفاهم معها، ولا التقاء فى وسط الطريق والتى يعرف الأعداء جيداً مدى خطرها على مصالحهم: ((الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم))(البقرة: 146) .

وحين بدأت الحركة الإسلامية على يد الإمام الشهيد سيد قطب، كان العالم الصليبى والصهيونى يرقبها بتوجس ظاهر، ويحاول أن يتعرف على مدى خطورتها كتب المستشرق البريطانى جب- والمستشرقون هو جهاز الاستخبارات الثقافى للصليبية الصهيونية- كتب كتاباً بعنوان: ((الاتجاهات الحديثة فى الإسلامin lslam mopern trends ))، ظهرت طبعته الأولى عام 1936م، يتحدث فيه عن حركة جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده، ويمتدحها بحماسة ظاهرة، ولكنه عقب فى أحد هوامش الكتاب بالتعقيب الآتى: ((ظهرت بعد ذلك جماعة جديدة تسمى جماعة الإخوان المسلمين، يتزعمها رجل يسمى حسن البنا، ومن السابق لأوانه الحكم على هذه الجماعة، وإن كان من الظاهر أنها ذات خطورة خاصة)) و واضح فى هذا التعليق مدى التوجس، والرغبة فى سبر غور هذه الجماعة ذات الخطورة الخاصة!.

كانت الخطورة الخاصة تتزايد بطبيعة الحال فى نظر الصليبية الصهيونية كلما تزايدت الجماهير الملتفة حول الدعوة الجديدة، التى تتحرك باسم الإسلام، ويتجمع الناس حولها باسم الإسلام و لكن الصليبية الصهيونية لم تكن تبينت بعد ما يجرى فى داخل الجماعة، من إعداد خطير غاية الخطورة، إعداد جنود للدعوة، مستعدين أن يموتوا فى سبيل الإسلام!.

ولكن القنبلة انفجرت عام 1948، وانفجرت فى أخطر موقع يمكن أن تنفجر فيه، وفى أخطر موعد يمكن أن تنفجر فيه: فى فلسطين، فى لحظة الإعداد لإنشاء الدولة اليهودية و كان دوى الانفجار أعظم بكثير، وأخطر بكثير مما قدره أصحاب الدعوة فى ذلك الحين.

أما كون أصحاب الدعوة يعرفون عداوة الصليبية الصهيونية للإسلام، ويعرفون توجسها منه، ورغبتها فى القضاء عليه، وكراهيتها لعودة الناس إليه، فأمر أوضح من أن يذكر؛ لأنه من بدهيات حس المسلم. فبحسب امرئ مسلم أن يقرأ فى كتاب الله هذه الآيات:
((ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم))(البقرة: 120) ((إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها)) (آل عمران : 120) . ((لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا))(المائدة : 82)0 ((ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق))(البقرة : 109).



بحسبه أن يقرأ ذلك فى كتاب الله، ليعلم أن هذه العداوة قائمة وأنها لن تزول أما إدراك مدى  هذه العداوة ومقدار كيدها، وتفاصيل ذلك الكيد، وموقعه من اللحظة القائمة، فأمر آخر مختلف و الذى يظهر من مجرى الأحداث أن تقدير ذلك كله لم يكن دقيقا بالدرجة الكافية.

لقد كان التخطيط اليهودى – تعاونه الصليبية بكل إمكاناتها – قد رتب كل شىء يخطر على البال، تمهيداً لإقامة الدولة اليهودية. فمنذ رفض عبد الحميد العروض اليهودية المغرية مقابل السماح بإقامة وطن لليهود فى فلسطين، من رشوة شخصية لجيبه الخاص مقدارها خمسة ملايين من الجنيهات الاسترلينية الذهبية (تمثل وقتها ثروة بالغة الضخامة)، والوعد بالتدخل لدى روسيا وبريطانيا وفرنسا لكفها عن إثارة الأقليات، (وهى مشكلة الدولة السياسية)، والوعد بقروض طويلة الأجل لإنعاش الاقتصاد العثمانى المثقل بالديون، (وهى المشكلة الاقتصادية للدولة) منذ رفض عبد الحميد هذه العروض المغرية، والملغومة فى ذات الوقت، فقد رسم اليهود مخططهم على سياسة طويلة الأجل، مقدارها خمسون سنة كما قرر هرتزل فى مؤتمره الصهيونى الذى أقامه فى مدينة بال بسويسرا، عام 1897م .

عزلوا عبد الحميد، ورتبوا الحرب العالمية الأولى، لتجميع أوربا الصليبية لقتال الدولة العثمانية والقضاء عليها، وكانوا يسمونها ((الرجل المريض)) ، ثم قسموا تركة الرجل المريض بعد القضاء عليه، بين بريطانيا وفرنسا صديقتى اليهود يومئذ (وحتى الآن بطبيعة الحال، مع تغير مركز الثقل من بريطانيا وزعيمة ((العالم الحر!)) يومئذ إلى أمريكا زعيمته الحالية)، وجعلوا فلسطين – ميدان الصراع المقبل – تحت الانتداب البريطانى، للتمهيد لإقامة الدولة فى ظل تصريح بلفور الذى قال: إن حكومة جلالة الملكة تنظر بعين العطف (!) إلى إقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين.

ولم يكتف التخطيط الماكر بهذا، بل قسم البلاد المحيطة بفلسطين إلى دويلات ضعيفة متعادية متنابذة، لا وزن لها فى عالم الحرب ولا عالم السياسة ولا عالم الاقتصاد، فضلاً عن نزاعات الحدود بين بعضها البعض، وفضلاً عن نزعات الوطنية والقومية التى تفرق بين بعضها وبعض.

ولم يكتف الكيد الماكر بهذا، فالشباب فى كل أمة طاقة خطرة إذا توجه توجهاً جاداً لأمر من الأمور الكبار، فينبغى صرفه بكل الوسائل عن الجد فى أى أمر، وخاصة فى الأمور التى يخشى من الجد فيها على مخططات الأعداء  لذلك سلطت على الشباب كل وسائل التمييع، الذى تجعله يهتم بسفاسف الأمور وينصرف عن معاليها، وقد قال رسول الله صلى الله  عليه و سلم   : ((إن الله يحب معالى الأمور ويكره سفاسفها)).. سلطت عليه السينما والإذاعة والمسرح، (ولم يكن التلفزيون قد ظهر بعد، ولا كان اليهود قد بثوا بعد ((جنون الكرة)) على مستوى العالم كله)، وسلط عليه قضية ((تحرير المرأة))، لتشغل الأولاد والبنات بعضهم ببعض فى علاقات ((بريئة!)) أولاً، تتحول إلى علاقات غير برئية بعد ذلك و سلط عليه تعصبات السياسة الحزبية تأكل وقته وجهده واهتماماته، ليخرج دون تحصيل ثقافى ذاتى، وتعصبات ((الفن))، ما بين هذه المغنية وتلك، وبين هذا المغنى وذاك، وكلها تفاهات!، ثم فى الموعد المحدد، بعد خمسين سنة بالضبط من مؤتمر هرتزل، الذى أعلن فيه ضرورة إنشاء الدولة خلال خمسين عاماً، أعلنت الدولة، وقامت الحروب المسرحية التى خاضتها الجيوش العربية، بطريقة أقرب إلى الهذر منها إلى الجد، كما قامت الخيانات، وصفقات الأسلحة الفاسدة، وتحركت الجيوش يمنة ويسرة لتقف فى النهاية عند خط التقسيم المتفق عليه سلفاً بين جميع الأطراف!

وهنا، وفى أحرج لحظة بالنسبة لمخططات العدو، انفجرت القنبلة، وأحدثت دويها المريع، دخل الفدائيون المسلمون ساحة المعركة، واكتشفت اليهود حقيقتهم، واكشتفتها معهم الصليبية العالمية، كم كانت القنبلة خطيرة، وكم كان دويها مريعاً على مستوى العالم كله! كانت أخطر بكثير مما قدرها أصحابها، حين اصطدم اليهود بالفدائيين الإسلاميين، عرفوا على الفور أنهم نوعية مختلفة عن تلك الجيوش التى جاءت لتلعب دورها فى الحرب المسرحية إنهم أصحاب عقيدة جاءوا بدافع من عقيدتهم، وجاءوا ليقاتلوا من أجل عقيدتهم، وليموتوا من أجلها، أسخياء بأرواحهم فى سبيل الله.. ذات العينة التى عرفوها من قبل فى التاريخ.

وازعجهم الأمر وأذهلهم، فما كانوا يتصورون قط أن هذه العينة من البشر يمكن أن تعود .. ومن مصر خاصة التى عمل فيها الغزو الفكرى من أيام الحملة الفرنسية، ليخرجه من دينها، بل يخرجها حتى من عروبتها، تحت شعار (مصر للمصريين)، الذى يعنى فى أطوائه أنه لا مجال فيه للعروبة ولا للإسلام.. وكان انزعاجهم حاداً، فوق التصور، فقد وصل الأمر بهم أن صيحة ((الله أكبر ولله الحمد)) كانت تفزعهم، فيتركون مواقعهم ومؤنهم وذخيرتهم، ويفرون طلباً للنجاة00
عندئذ وضح فى حسهم تماماً أنه لا قيام لإسرائيل – فضلاً عن توسعها المرسوم فى المستقبل – إذا بقيت الحركة الإسلامية حية و أنه لابد من القضاء على الحركة الإسلامية لتعيش إسرائيل، وتأمن وتستقر، وتتوسع كما تشاء و صدرت أوامر الصليبية الصهيونية بحل جماعة الإخوان المسلمين، ثم قتل قائدها، وتوالى الأحداث.

لقد عوجلت الحركة بصورة عنيفة، أعنف مما كان متوقعاً بكثير، لم يكن أحد من القائمين بالدعوة يتوقع لها السلامة من الأذى، فذلك حسب السنة الجارية فى حكم المستحيل، ولكن أحداً لم يكن يتوقع أن يصل الأذى إلى هذا الحد الوحشى الذى وقع بالفعل.. أن يطلق الرصاص على قائد الجماعة فى الشارع فى وضح النهار، ثم ترفض المستشفيات إسعافه لينزف حتى الموت بأمر الدولة وتدبيرها، ويؤخذ ألوف من الشباب فيعذبوا فى السجون بوحشية تع عنها الوحوش كل ذلك لم يكن فى الحسبان، ولم يكن أحد يتخيل أن يحدث و لا شىء بطبيعة الحال يمكن أن يبرر لتلك الوحوش البشرية وحشيتها، مهما حاولت أن تستر جرائمها بدعوى المحافظة على الأمن، أو القضاء على الفتنة، أو ما شابه ذلك من الدعاوى، التى لا تستر شيئاً فى الدنيا، ويوم القيامة ((يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين))(النور:25).

ولكنا نسأل من جانب أخر، هل كانت الحركة تسير على منهج صحيح، أم إنها تعجلت فى حركتها قبل الأوان؟

ولا يحسبن أحد أن الحركة كانت ستهادن لو أنها سلكت مسلكاً أخر.. فقد رأينا كيف كان رد الملأ حين عرض عليهم شعيب عليه السلام أن يصبروا حتى يحكم الله بينهم : ((وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذى أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين(87) قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن فى ملتنا قال أو لو كنا كارهين))(الأعراف : 87-88).

كلا ! لا يمكن أن تطيق الجاهلية دعوة لا إله إلا الله، ولا أن تهادنها أو تصبر عليها و لسنا نقول: إن الحركة لو استقامت على منهج صحيح كانت ستنجو من الأذى الذى يمكن أن يصل إلى حد التعذيب والقتل، فإن الجماعة الأولى التى رباها رسول الله صلى الله  عليه و سلم على عينه، وسارت على أعظم منهج يمكن لحركة أن تسير عليه، إذ كان الوحى الربانى هو الذى يتولى توجيهها خطوة بخطوة، لم تسلم من الأذى، الذى وصل إلى حد التعذيب والتشريد والتجويع والقتل فليس السير على المنهج الصحيح مطلوباً من أجل حماية الأشخاص القائمين بالدعوة! إنما هو مطلوب من أجل الدعوة ذاتها، من أجل أن تؤتى ثمارها كاملة، وتؤدى رسالتها على الوجه الأكمل.

عوجلت الحركة معاجلة عنيفة، ولما تستكمل بناء قاعدتها على أساس متين لقد خرجت فدائيين مخلصين مستعدين أن يموتوا فى سبيل الله، ويحتملوا الأذى فى شجاعة من أجل الدعوة إلى الله و خرجت قوماً تربط بينهم أخوة فى الله، تعدل بل تفوق عندهم رابطة الدم و خرجت قوماً نظيفى التعامل، لأنهم يخافون الله و خرجت قوماً فيهم إيجابية وجلد على بذل الجهد.. وكلها صفات طيبة مطلوبة فى القاعدة، ولكنها ليست كل شىء، ولا تكفى وحدها لبناء القاعدة المطلوبة.. إنهم ليسوا مجرد أفراد يتطهرون لله، وينذرون أنفسهم لله، إنهم دعوة  تريد أن تنفذ أمة بأسرها مما هى واقعة فيه من الهوان والخسف، بسبب بعدها عن طريق الله، وهذا أمر يتطلب الكثير الكثير و سنتكلم عن التربية المطلوبة فى الفصل القادم، سواء منها ما كان مطلوباً للقاعدة الصلبة، أو للجماهير التى تتحرك بها الدعوة 00 ولكنا هنا ندرس أسباب التعجل، والآثار التى ترتبت عليه.

لقد استمرت الحركة فى توجهها الجماهيرى قبل استكمال بناء القاعدة، والتحرك بالجماهير قبل استكمال وعيها الإسلامى، والصدام مع السلطات فى معارك غير متكافئة.. وترتب على ذلك نتائج لا تخدم الدعوة فى كثير استمر الغبش حول قضية لا إله إلا الله، إن لم نقل: إنه زاد، بفعل ما اختلط بها من قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية، قبل أن تتأصل فى قلوب الناس – الدعاة على الأقل – على أنها العبودية الخالصة لله أولاً، بصرف النظر عما يترتب عليها فى الحياة الدنيا من نتائج سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ثم تكون هذه القضايا كلها حين يجئ دورها نابعة من لا إله إلا الله، ومرتبطة بها لا منفصلة عنها، ولا موازية لها، ولا مقدمة عليها.

ولا ننسى هنا أن التعجل فى التحرك بالجماهير قبل أن تستكمل وعيها الإسلامى، إن لم نقل: قبل أن تكون عندها وعى إسلامى، قد أزعج الأحزاب والكيانات العلمانية على ((جماهيرها)) التى تتسرب من بين يديها وتنضم للحركة الإسلامية، فوقفت تستدرج الحركة الإسلامية عن طريقها الأصيل، فى صورة تحد تواجهها به : أرونا أين برامجكم التى تنادون بها لتنزعوا بها الشرعية منا، وتزعموها لأنفسكم؟ ومن ثم اندفعت الحركة الإسلامية تبحث عن برامج ترد بها على التحدى، ليصرفها ذلك عن تحرير قضيتها الأولى، قضية لا إله إلا الله .

إن قضية لا إله إلا الله – فى مرحلة التكوين بالذات- لا ترتبط فى حس أصحابها الذين يتربون على المنهج الصحيح، أى ارتباط بالنتائج التى تترتب عليها فى الحياة الدنيا، لا السلطان، ولا الاستقرار السياسى، ولا الوفرة الاقتصادية، ولا الهناءة الاجتماعية .. فقد لا يترتب عليها شىء من ذلك كله فى الحياة الدنيا؛ إنما قد يكون مصير أصحابها هو مصير سحرة فرعون الذين آمنوا، فكان نصيبهم القتل والصلب، أو مصير أصحاب الأخدود، الذين آمنوا فكان نصيبهم الحرق بالنار أحياء عن بكرة أبيهم  إنما كانوا مثلا لمن بعدهم، وكان نصيبهم الذى رضيت به أنفسهم هو رضوان الله، وجنات عدن تجرى من تحتها الأنهار.

ولكن التعجل فى تجميع الجماهير، والتعجل فى التحرك بتلك الجماهير قبل أن تنضج، بل قبل أن تستكمل القاعدة ذاتها نضجها، هو  الذى أدى إلى هذا الغبش المتزايد حول القضية الأساسية، وأصبح عماد الدعوة إلى الإسلام أن تطبيقه هو الذى سيحل جميع المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التى يعانى منها الناس اليوم، وبالتالى البحث عن ((البرامج العملية)) التى تواجه التحدى الذى يقدمه العلمانيون!

وكون الإسلام هو الحل، حقيقة ربانية، الله سبحانه وتعالى هو المتكفل بها بنفسه، وهو الواعد بها، ووعده الحق: ((ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض))(الأعراف:96) أما أن هذا الحل سيتحقق بمجرد وصول الإسلاميين إلى الحكم، فأمر لا دليل له من كتاب الله، ولا من وقائع التاريخ، فقد عاش المسلمون سنوات من الشظف الحاد بعد توليهم السلطة، وتأسيسهم الدولة الإسلامية التى تحكم بما أنزل الله، واستمر حتى أيام عمر رضى الله عنه، والناس صابرون على الشظف وعلى المشقات كلها، لأنهم مؤمنون، ولأنهم نذروا أنفسهم للدعوة، ولأنهم يرجون الآخرة، ولا ينظرون إلى شىء من متاع الحياة الدنيا، وهذا هو الذى حقق لهذه الدعوة أن ترسخ فى الأرض وتتمكن، وتمتد فى الآفاق.

ولو كان رسول الله صلى الله  عليه و سلم  قد أغرى الجماهير بأنهم – إذا تسلم الإسلام السلطة – سيحلون كل مشاكلهم الأرضية، ويرفلون فى النعيم، ما صبروا على شظف العيش الذى تلا تأسيس الدولة الإسلامية، واستمر بعد ذلك سنوات، ولا كانت تلك الحركة الباهرة التى غيرت وجه الأرض. وحين نوهم الناس – الذين لم تتمحض قلوبهم للا إله إلا الله – بأنهم إذا تسلم المسلمون سيحلون كل مشاكلهم فى التو واللحظة، ثم يستمر الإسلاميون فى الحكم سنوات والمشاكل لا تحل، بل تزداد حدة نتيجة اشتداد الصليبية الصهيونية فى الحرب، فهل سيصبر الناس، الذين لم يدخلوا من باب العبودية الخالصة لله، بل من باب المصالح الدنيوية؟ هل سيصبرون على الشظف والحرمان والجهاد المر، حتى يتحقق وعد الله فى أوانه المقدر عنه الله، أم سينقلبون على الحكم الذى لم يحقق لهم ما جاءوا من أجله، وأدلوا من أجله بأصواتهم فى صناديق الانتخاب؟!

إنما تكون الدعوة أولاً وقبل كل شىء، لبيان واجب العباد نحو خالقهم، واجب العبودية الخالصة لله، والالتزام بما جاء من عند الله، بصرف النظر عما يترتب على إخلاص العبادة لله، فى الحياة الدنيا، من كسب أو خسارة بحساب الأرض، إنما هو الجزاء الأخروى، مع بيان أن الله وعد هذه الأمة بخاصة أن يحقق لها الاستخلاف والتمكين والتأمين فى الحياة الدنيا، ولكن بشرط واضح: أن يعبدوه وحده بلا شريك، ويخلصوا له العبادة، لا بمجرد أن يذهبوا إلى صناديق الانتخاب، ويحصلوا على أغلبية الأصوات، ثم يتولوا السلطة : ((وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من خوفهم أمنا يعبدوننى لا يشركون بى شيئا (النور: 55).

ولا شك أن الدعوة ستمضى فى بطء شديد حين تكون على هذا الأساس، ولن تتجمع الجماهير بوفرة فى الزمن القصير، ولكن عندئذ يكون قد بدأ التمكين الصحيح بموكب المنهج الربانى، وبموجب السنن الربانية، ويتحقق قدر الله : ((والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)) (يوسف:21).

ثم زاد الغبش مرة أخرى من جانبين اثنين: حين دخلت بعض فصائل الحركة فى صراعات دموية مع السلطة، وحين دخلت فصائل أخرى مجالس النواب !.


لقد أدى انزعاج الصليبية الصهيونية من الحركة الإسلامية، بالإضافة إلى عوامل أخرى مصاحبة، إلى تغير حاد فى السياسة العالمية، ليس هنا مجال تفصيله، ولكن لابد من إشارة سريعة إلى ما يخص العالم الإسلامى منه.

لقد خرجت بريطانيا وفرنسا منهكتين من الحرب الكبرى الثانية (1939 – 1945)، بينما خرجت أمريكا بعافيتها كاملة لم يصبها من دمار الحرب شىء يذكر، وأغرى ذلك أمريكا أن تتزعم ما كان يسمى ((العالم الحر))، وأن تطرد النفوذ البريطانى والفرنسى من أماكن سيطرته، وتحل هى محله على يد زعامات عميلة لأمريكا، تضفى عليها البطولات الزائفة، وتصور فى نظر الجماهير على أنها قاهرة الاستعمار، ومخلصة الشعوب من شروره و لكن هذه اللعبة التى ربما بدت منطقية من نتائج الحرب، كان لها هدف آخر خفى، تواطأت فيه الصليبية مع الصهيونية، ورتبتاه معاً، وهو ضرب الحركات الإسلامية فى المنطقة العربية بصفة خاصة، لتأمين إسرائيل، وإتاحة الفرصة لها لكى تستقر وتتمكن، وتتوسع فى الأرض الإسلامية كما تشاء، بعد ما بدا واضحاً من أن الضربة الأولى التى قتل فيها الإمام الشهيد، وعذب فيها من عذب من الشباب، لم تكن قاضية، بل كانت كأنها زاد للحركة، زادها اشتعالاً وتوسعاً فى الآفاق.

ومن أجل هذا الهدف، اختير الزعماء المطلوبون بعناية اختيروا كلهم من العسكر! وليس كل العسكر صالحين لهذه المهمة الخطيرة، فلابد أن تتوافر فيهم شروط ثلاثة رئيسية، ولا بأس بعدها بأية إضافات : جنون السلطة، وقسوة القلب، وكراهية الإسلام.. احتذاء للنموذج الأول – المعتمد عندهم – كمال أتاتورك!.

وحين توجد هذه الصفات فى شخص معين، فسيتجه تلقائياً لضرب الحركة الإسلامية، وبالعنف المطلوب! ومع ذلك فلم تكن الأمور تترك للمصادفة، وإنما كانت تدرس وتدبر للإيقاع بالحركات الإسلامية، وقتل زعمائها وقادتها، واعتقال الألوف من شبابها، وتعذيبهم بألوان من الوحشية تقشعر لها الأبدان و هنا تبدو ((الحكمة))! من اختيارهم من العسكر لا من المدنيين، فمع العسكر يمكن تسويغ كل شىء وتمريره، الأحكام العسكرية، والمحاكم العسكرية، وعنف البطش، وصرامة الإجراءات .. أما لو كانوا مدنيين فلن تكون لهم تلك الجرأة فى الإجرام، ولا تلك القوة فى الانتقام، ولا ذلك العنف، ولا ذلك الإرهاب.

ومضت المذابح تقام للمسلمين فى كل بلد تولى العسكر فيه السلطة، ولا يمكن أن يكون ذكر بالمصادفة بطبيعة الحال! كان عن قصد وتخطيط وتدبير، وعرفت المنطقة أشكالاً من التعذيب الوحشى لا مثيل لها فى التاريخ، إلا ما كان من محاكم التفتيش فى الأندلس، التى كان هدفها القضاء الكامل على الإسلام.. وتوالت الضربات، فما تمر بضع سنوات  - وأحياناً بضعة شهور – حتى تكون قد أقيمت مذبحة هنا أو مذبحة هناك، تتجاوب أصداؤها فى العالم كله، وترقص لها الصليبية الصهيونية طرباً، وتفرك أيديها سروراً بنجاح (الأولاد) فى أداء المهمة التى كلفتهم بها (الأم) الرءوم!.

وتولد عن هذا الوضع المؤلم تباران فى صفوف الحركة، مختلفان – بل متضادان – فى الاتجاه، أحدهما تيار الشباب الذى استفزه ما يقوم به العسكر من إرهاب وحشى، فقرر أنه لابد من الرد على العنف بالعنف، ظناً منه أن المقاومة المسلحة ستقضى فى النهاية على عنف العسكر، وتضطرهم – أو تضطر سادتهم – إلى تغيير الأسلوب.. والآخر تيار الشيوخ الذين أنهكهم توالى الضربات، فاختاروا طريق المسالمة إلى أقصى حد ممكن، وقرروا الدخول فى لعبة الديمقراطية؛ لكى لا يقال عنهم إنهم من أناصر العنف  وكلا التيارين كان سبباً فى مزيد من الغبش حول قضية لا إله إلا الله.

وبصرف النظر عن المبررات التى يقدمها كل فريق لتبرير مسلكه، فنحن هنا نتحدث عن الآثار التى نجمت عن التعجل فى الحركة منذ البدء، والتى أضافت معوقات جديدة إلى المعوقات القائمة، أكثر مما كانت عوناً للحركة لكى تتقدم إلى الأمام، وإن بدت فى نظر أصحابها خطوات إيجابية مفيدة للحركة، ومقربة إلى الهدف المنشود .

إذا أخذنا فى اعتبارنا أن وضع الدعوة الآن أقرب شىء إلى وضع الجماعة المسلمة فى مكة، مع بعض الاختلاف، فإن اللجوء إلى العنف لا يخدم الدعوة، ويثير حولها من الغبش أكثر بكثير مما يوضح القضية ويبينها للناس، ولا ننسى أن بيان حقيقة القضية – قضية لا إله إلا الله – عنصر أساسى فى الحركة كلها – سواء بالنسبة للقاعدة، أو بالنسبة للجماهير، وأنه لا يمكن إحراز تقدم حقيقى على مسار الدعوة، ما لم تتبلور هذه القضية تصوراً وسلوكاً فى حس الناس.

وحين ندخل فى معارك غير متكافئة مع السلطة، وقبل أن تحدد قضية ((الشرعية)) عند الناس، يحدث أمران معاً، كلاهما ضار بالحركة :
الأمر الأول : أن القضية تتحول – بعد فترة من الصراع تطول أو تقصر – إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، وتنشى أو تهمش القضية الأساسية التى يدور حولها الصراع كله: قضية من المعبود على الحقيقة: آلله أم آلهة زائفة من دونه؟ وهى القضية التى تتضمن فى أطوائها مجموعة من القضايا المنبثقة عنها، المترتبة عليها : قضية من المشرع : آلله، أم البشر؟ ومن مقرر القيم؟ ومن مقرر المعايير؟ ومن واضع المنهج للناس؟ تلك القضايا التى هى – منذ وضع البشر أقدامهم على الأرض إلى قيام الساعة – موضع الصراع بين الجاهلية والإسلام، بين أهل الباطل وأهل الحق، وهى التى من أجلها أرسل الرسل، وأنزل الوحى، وأقيمت الجنة والنار! .



والأمر الثانى: أننا نتيح فرصة هائلة للأنظمة المعادية للإسلام، أن تزعم للناس أنها لا تحارب الإسلام، وإنما تحارب الإرهاب الذى لا يقره الإسلام، وتصدقها الجماهير بعد فترة تقصر أو تطول! وفى ذلك خسارة مؤكدة للدعوة؛ لأنها تغطى الموقف الحقيقى لهذه الأنظمة، وتؤخر فى حس الناس تبلور قضية الشرعية، وهى من القضايا الرئيسية التى يتوقف عليها فى النهاية مصير الصراع بين الجاهلية والإسلام.

وكذلك حين ندخل فى لعبة (الديمقراطية) ، فإننا نخسر كثيراً فى قضية لا إله إلا الله.
أول ما نخسره هو تحويل الإلزام إلى قضية خيار تختاره الجماهير، والله سبحانه وتعالى يقول: ((وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم))(الأحزاب:36).

إن قضية عبادة الله وحده بلا شريك، وهى قضية لا إله إلا الله، معناها أن يكون الله هو المعبود فى الاعتقاد، وهو المعبود فى الشعائر التعبدية، وهو المشرع، وهو مقرر القيم والمعايير، وهو واضع منهج الحياة للناس.. وهى قضية إلزام لا خيار فيها للمسلم مادام مقراً بالإسلام، بل هى قضية إلزام لكل من نطق بلسانه لا إله إلا الله، ولو كان فى دخيلة قلبه منافقاً كارهاً للإسلام، فإنه إن أعرض عن شريعة الله، فإنه يؤخذ بإقراره اللسانى، ثم يعتبر مرتداً عن الإسلام ((ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين(47) وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون))(النور: 47-48) (( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً))(النساء:65).

وحين ندخل فى لعبة الديمقراطية، فأول ما نفعله هو تحويل هذا الإلزام الربانى إلى قضية يستفتى فيها النسا، وتوخذ عليها الأصوات بالموافقة أو الرفقض، مع إتاحة الفرصة لمن شاء أن يقول: إنكم أقلية، والأقلية لا يجوز لها أن تفرض رأيها على الأغلبية .. وإذن فهى مسألة رأى، وليست مسألة إلزام، مسألة تنتظر أن يصل عدد أصوات الموافقين عليها مبلغاً حتى تتقرر.

وبصرف النظر عما فعلته الجاهلية فى الجزائر، حين وصلت الأصوات إلى المبلغ المطلوب – وهو درس ينبغى ألا يغفل عن دلالته أحد ممن ينادون باتباع هذا الطريق – فإن القضية يجب أن تتحدد على أساس آخر مختلف .. إن تحكيم الشريعة إلزام ربانى، لا علاقة له بعدد الأصوات، ولا يخير الناس بشأنه، هل يقبلونه أم يرفضونه، لأنهم لا يملكون أن يرفضوه ثم يظلوا مسلمين!

وفرق بين أن تكون إقامة الإسلام فى الأرض متوقفة – بعد مشيئة الله سبحانه وتعالى – على وجود قاعدة مؤمنة ذات حجم معين، تملك تحقيق هذا الإلزام الربانى فى عالم الواقع، وبين أن يكون الإلزام ذاته موضع نظر! وموضع استفتاء! سواء استطعنا تحقيقه فى عالم الواقع، أم لم نستطع لضعفنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس، كما كان حال المسلمين فى مكة و يجب أن تقدمه الدعوة للناس على هذا الأساس: أنه إلزام ربانى، وأن الناكل عنه مرتد فى حكم الله، وأن جميع الناس مطالبون بتحقيقه، حكاماً ومحكومين، سواء وجدت هيئة أو جماعة تطالب به أم لم توجد؛ لأنه ليس متوقفاً على مطالبة أحد من البشر، بعد أن طلبه رب العالمين من عباده بصيغة الأمر الملزم.

وهذا المعنى يختفى تماماً فى حس الناس – أو فى القليل يفقد شحنته الفاعلة – حين ندخل فى لعبة الديمقراطية، التى تقرر من حيث المبدأ أنه لا إلزام لشىء إلا ما تقرره غالبية الأصوات.

والخس
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almobine.yoo7.com
 
أسباب التعجل فى الحركة المعاصرة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
المبين :: الفئة الأولى :: المنتدى الأول-
انتقل الى: