ما الأصح من خلاف أهل العلم في الوقف في قوله تعالى " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا " هل الأصح الوقف على الاسم الأحسن ( الله ) أم الأصح أن يوقف على قوله (والراسخون في العلم ) ؟
ج) أقول :- هذه مسألة مبنية على مسألة ، وفهمها ينبني على فهم المسألة الأخرى ، وهي مسألة معرفة معاني التأويل ، فإننا إذا علمنا معاني التأويل هان الأمر علينا وتحدد الراجح في الوقف ، فأقول وبالله تعالى التوفيق :- لقد قرر أهل العلم رحمهم الله تعالى أن التأويل له معنيان ، وهما المعنيان المعروفان عن السلف والأئمة ، وقد زاد أهل الكلام معنى ثالثا ، ولا شأن لنا بما زادوه ، لأننا سنتلكم عليه في مكان آخر إن شاء الله تعالى ، والمهم الآن أن تعلم أن السلف رفع الله منازلهم في الجنة قد قسموا التأويل إلى قسمين :-
تأويل بمعنى حقيقة الشيء التي يؤول إليها ، وتأويل بمعنى التفسير ، أي تفسير المعاني ، والتأويل الأول هو غالب المراد من إطلاق لفظ التأويل في القرآن الكريم ، ومنه قوله تعالى " هل ينظرون إلا تأويله ، يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق ، فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ، أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل " والمراد بتأويل اليوم الآخر ، أي وقوع حقيقته كما أرادها الله تعالى ، أي مجيئه وحصوله ، فقوله "هل ينظرون إلا تأويله " أي هل ينظرون إلا وقوع حقيقة ما أخبرت به الرسل ، وقوله " يوم يأتي تأويله " أي يوم تقع حقيقته على ما هي عليه ، وتكون حقيقة مشاهدة بالبصر ، بعد أن كانت حقيقة علمية معلومة بالعقل فقط ، فالتأويل المراد هنا هو الحقيقة والصفة وظهور الشيء على ما هو عليه ، ومن ذلك أيضا :- قوله تعالى عن يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام " يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا " أي أنه لما وقعت حقيقة هذه الرؤيا وظهرت على ما هي عليه ، قال يوسف عليه السلام هذا الكلام ، فلما سجد له إخوته وأبواه قال " هذا تأويل رؤياي من قبل " أي هذا هو حقيقتها التي تؤول إليها ، فوقوع الرؤيا في أرض الواقع هو تأويلها ، لأنه هو حقيقتها ، ومن ذلك قول عائشة رضي الله تعالى عنها " كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده :- سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي ، يتأول القرآن " متفق عليه فسمت تنفيذه للأمر تأويلا ، والمراد بالأمر أي الأمر الوارد في قوله تعالى " إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " فلما امتثل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر وأخرجه في قوله ( سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي ) سمي ذلك تأويلا ، أي هذا هو حقيقة الأمر الوارد في سورة النصر ، وعلى ذلك :- فيكون تأويل الخبر معناه :- وقوعه على الحقيقة المخبر بها ، وتأويل الأمر معناه :- امتثاله وتنفيذه على الوجه الشرعي ، وتأويل النهي معناه :- تركه واجتنابه تعبدا لله تعالى ، وتأويل الرؤيا معناه :- تحققها وظهورها على أرض الواقع ، هكذا قال أهل السنة والجماعة
وأما التأويل الثاني :- فهو التأويل بمعنى التفسير وبيان المعنى ، ومنه قول ابن جرير الطبري في تفسيره :- القول في تأويل الله تعالى كذا وكذا ، كذا وكذا ، وقد اتفق أهل السنة على أن التأويل يأتي بمعنى التفسير ، ويفسر به قوله تعالى عن الخضر عليه السلام أنه قال لموسى عليه السلام لما أراد مفارقته لعدم صبره على ما رآه من الأفعال ، وبعد أن فسر له حقيقة ما فعله ، قال له " ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا " أي هذا تفسيره ، وهذا هو حقيقته ، وبالجملة :- فالتأويل له معنيان صحيحان متفق عليهما بين أهل السنة والجماعة وهما :- التأويل بمعنى ما يؤول إليه الأمر ، أي حقيقة الشيء على ما هو عليه والتأويل بمعنى التفسير ، إذا علمت هذا فأقول :- إن قوله تعالى " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " إن كان يراد بالتأويل حقيقة الشيء المخبر به وكيفيته على ما هو عليه من حقائق آيات الصفات وحقائق اليوم الآخر فهذا مما لا يعلمه إلا الله تعالى كما قررناه سابقا ، من أن كيفية الصفات وحقائق اليوم الآخر لا يعلمها إلا الله تعالى ، فيكون الوقف على الاسم الأحسن من باب الوجوب ، فتقول " وما يعلم تأويله إلا الله " وتقف ، وأما إن كان يراد بالتأويل تفسير الشيء وبيان معناه ، فالوقف يكون على قوله تعالى " والراسخون في العلم " أي أن الراسخين في العلم يعلمون تفسير معاني ما أنزل إليهم ، كما قررناه سابقا ، من أنه ليس في القرآن ما لا يمكن أن يعلم معناه بالتدبر والتأمل ، فإن قام في قلبك المعنى الأول فقف على الاسم الأحسن ، وإن قام في قلبك المعنى الثاني فقف على " والراسخون في العلم " وعليه :- فيكون خلاف السلف رحمهم الله تعالى في تفسير هذه الآية من باب خلاف التنوع لا التضاد، ذلك لأن منهم من قال :- إن الوقف يكون على الاسم الأحسن ، ومنهم من قال :- بل الوقف التام يكون على قوله " والراسخون في العلم " وهذا من باب التنوع ، لأن الذين قالوا :- إن الوقوف التام يكون على الاسم الأحسن غلبوا جانب المعنى الأول في التأويل ، وهو حقيقة الشيء المخبر به ، والذين قالوا :- إن الوقف التام على قوله " والراسخون في العلم " نظروا إلى التأويل بالمعنى الثاني ، وهو التأويل بمعنى التفسير وكلا القولين مقبول لا غبار عليه، ولكن بالنظر على هذين الاعتبارين ، واختار هذا القول أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى وتلميذه العلامة ابن القيم ، وغيرهما من المحققين ، وهو الحق في هذه المسألة رحم الله الجميع رحمة واسعة ، وغفر لهم وتجاوز عنهم ، وجمعنا بهم في الجنة ، والله ربنا أعلى وأعلم .